أما آن للانقلابيين في مالي أن يدركوا دور الجزائر في حلّ مستدام لهذا البلد الذي أنهكته الحروب والصراعات؟

أما آن للانقلابيين في مالي أن يدركوا دور الجزائر في حلّ مستدام لهذا البلد الذي أنهكته الحروب والصراعات؟

استطاعت الجزائر منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، أن تقنع الماليين لأربع مرات بهدف عقد اتفاقيات سلام، فقد كان يحدث ذلك مع كل انقلاب عسكري لا يتمكن أصحابه الانقلابيين من تحقيق استقرار هشّ وجزئي بهذا البلد مترامي الأطراف ومتعدد الأعراق، فسرعان ما كان ينشب الخلاف مجددا حول مسائل تقسيم السلطة.

ولم يشهد مالي طوال تاريخه مراحل استقرار طويلة المدى يمكن أن يعتدّ بها لتشكيل أرضية صالحة لبناء دولة مستقرة وآمنة ولم لا دولة قوية وفاعلة إقليميا، فكل تلك الفترات كان عبارة هدنة ممتدة لا تلبث أن تصنع منها الانقلابات صراعات وحروبا أهلية ما يفتأ التنوع العرقي أن يفجرها في كل وقت وحين، إلى جانب أنّ الاختلاف المتأصل حول الزعامة السياسية وتوزيع الثروة الوطنية كان طوال الوقت يغذي التنصل من الاتفاقات التي كانت الجزائر تحرص دوما على الالتزام بها.

وقد أثبت التاريخ أنّ الجزائر بما تملكه من مؤهلات وقدرات ومميزات كانت صمّام الأمان لدولة وشعب مالي والمحافِظة على أمنه واستقراره رغم كل تلك الانزلاقات والمغامرات غير محسوبة العواقب، كونها الجارة الشمالية التي تفصلها عن مالي حدود تمتد لألف كيلومتر وتربطها به جغرافيا وديمغرافيا لا تعترف كثيرا بالحدود السياسية، ما جعل من مسألة أمن البلدين أمرا مشتركا ينبغي معالجته وفق تصور مبني على التشاور المستمر ورؤية جامعة وموحّدة، وهو ما برر على الدوام دور الجزائر في السعي للحفاظ على استقرار مالي وأمنها.

وحدها الجزائر كانت تعرف معادلة الحل وكيف يمكن تفادي الأسوأ في مالي، فالاتفاقيات الأربع التي رعتها الجزائر منذ مطلع تسعينات القرن الماضي كانت دائما في صالح الشعب المالي وأمنه واستقراره، اللذان لا ينفصلان عن أمن واستقرار الجزائر.

وقد احتضنت الجزائر اتفاقية تمنراست عام 1991 والميثاق الوطني عام 1992، كما أنّها رعت اتفاقية الجزائر في 2006 واتفاق الجزائر سنة 2015، وكلّ ذلك حرصا منها للحفاظ على هذا الأمن والاستقرار المشترك.

وقد مثّل انسحاب الحكومة الانتقالية بزعامة الانقلابيين، بوصفها سلطة أمر واقع مفروض على الشعب المالي المستثنى من وضع تصور لمستقبله وعلاقاته بالشعوب المجاورة، من اتفاق الجزائر مغامرة خطيرة غير محسوبة العواقب، ومقامرة تقف خلفها قوى إقليمية ودولية معروفة جعلت من الانقلابيين وكيلا لأعمالهم ومصالحهم التي تتطابق مع نهب خيرات الشعب المالي ولو على حساب أمنه واستقراره ورخائه.

ويبدو أنّ الحكومة الانتقالية في بماكو لم تستوعب دروس التجارب الأليمة السابقة والتي انتهت جميعها بالعودة إلى البحث مجدّداً عن حلول سلمية، تُجنب الشعب المالي آلام الفرقة والانقسام ومآسي التشرّد واللجوء وويلات الحرب وشلال الدماء، الذي لم يكن ليتوقف في كلّ مرة من المرات الأربع لولا الدور الاستراتيجي والمحوري للجزائر في سعيها لاستتباب الأمن المشترك.

إنّ الجزائر لن تغيّر موقعها الجغرافي لتبتعد عن الأزمات التي أضحى مالي متميّزا بها منذ استقلاله عن الاستعمار الفرنسي، ونفس الحال بالنسبة لمالي الذي سيظل جارا للجزائر، وهذا ما ينبغي على حكام مالي الجدد أن يستوعبوه ويدركوه قبل فوات الأوان، إذ يجدر بهم ألّا يثقوا في علاقات وتحالفات مع قوى ودول أجنبية لا تهمها سوى مصالحها الآنية والضيقة التي لا تلتفت كثيرا لأزمات مالي، تلك الأزمات التي تعني للجزائر الكثير وهي وحدها من يبحث في نهاية المطاف على إيجاد حل مستدام لها.