أنجزت ما عجزت عن فعله قوى عالمية.. الجزائر تنجح في جعل قُطبي العالم المتناقضين والمتصارعين يجمعان على أهميّتها ودورها في إرساء السلام وتحقيق الاستقرار
جاء تصريح المسؤولة الأمريكية في وزارة الخارجية المكلفة بمنطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط، باربارا ليف، بأن الجزائر شريك قوي في إفريقيا، ليتطابق مع وجهة النظر الروسية التي أكدها الرئيس فلاديمير بوتين بكون الجزائر هي ثاني أكبر شريك تجاري لروسيا في إفريقيا، وأن موسكو تدعم الخط المتوازن الذي تنتهجه الجزائر في الشؤون الإقليمية والدولية، وهذا تطابق عزّ أن يحدث نظيره في عالم يقع على حافة صدام مهول.
تأتي هذه التصريحات المؤكدة على أهمية الجزائر كلاعب إقليمي ودولي هام له مكانته الخاصة ودوره المحوري في إرساء الاستقرار ودعم السلام العالميين، في ظرف دولي يتسم بالتشنج على إثر الحروب المعلنة والمستترة، التي يشهدها العالم في أوكرانيا وإقليم ناغورني كاراباخ بين أرمينيا وأذربيجان، وما ينجم عنها من أزمات خطيرة ذات أبعاد متعددة وتداعيات معقدة، اقتصادية وجيوسياسة واجتماعية، تنذر بتحولات عالمية جذرية إذا ما استمرت الأوضاع في هذا المنحى التصاعدي من التوتر.
وفي هذا السياق، يعترف كبار العالم للجزائر، مجمعين على رؤيتهم، بمقدرتها على التخفيف من حدة تداعيات هذه الأزمات، خاصة في منطقة حوض البحر الأبيض المتوسط وأوروبا، حيث أبدت الجزائر تنازلا عن عقيدتها الدبلوماسية المبنية على تحالف عسكري وسياسي مع الاتحاد الروسي، خدمة للمصالح الإقليمية، من خلال فك الخناق على أوروبا وتزويد عدد من دولها بالغاز على إثر تعطل الإمدادات بعد إعلان روسيا عن حدوث عطب في أنبوبها الرئيسي المتجه نحو أوروبا، وتحديدا إلى ألمانيا “نورث ستريم 1”.
ورغم أن الجزائر تكون قد خاطرت بمصالحها مع حليفها الإستراتيجي، إلا أن تحركها هذا كان في صالح السلام والاستقرار في المنطقة، وهذا ما أقرت به الخارجية الأمريكية على لسان المكلفة بمنطقة شمال إفريقيا والشرق الأوسط، بربارا ليف، نظرا للقلق المتأزم حيال حليفها الاستراتيجي الاتحاد الأوروبي، وهو على أعتاب شتاء قارس.
وحتى الرئيس الروسي بوتين وهو يلقي كلمة بمناسبة اعتماد بلاده لعدد من السفراء، كان من بينهم سفير الجزائر الجديد لدى الاتحاد الروسي، اسماعيل بن عمارة، اعترف بدور الجزائر الهام في التقليل من حجم الصدمة التي أحدثتها مواجهة بلاده مع الغرب، فهو يرى بعين متأنية لا تشاهد ما تراه عينه الأخرى المهددة لمصالح الغرب في اوكرانيا، إنها عين التعقل التي تدرك حجم الخسائر التي ستتكبدها روسيا من جراء القبضة الحديدية مع خصم عنيد وعدو لدود لكنه في الوقت نفسه شريك هام وزبون تاريخي، تجمعها به مصالح حيوية واستراتيجية.
إن العبقرية الدبلوماسية الجزائرية، وحتى وإن كانت في ظاهره مبنية على نوع من المجازفة القريبة من المقامرة بمصالحها الاستراتيجية، إلا أنها أثبتت حيوية الجزائر إقليميا ودوليا، ومقدرتها التفاوضية من أجل كسب ثقة القوى العظمى في هذا العالم مجتمعة، رغم تناقضاتها وصراعاتها المتأصلة، وهذا الهدف أعيى دولا لها تاريخ دبلوماسي طويل وحافل بالخبرة والتجربة على أن تحققه، فلا نجدها وهي تحاول ذلك وتسعى إليه إلا منحازة في النهاية شرقا أو غربا، أما أن تجعل المتصارعين يجمعون على أهميتها فهذا ما يكاد يكون مستحيلا، لكن الجزائر أحرزته وجعلت قطبي العالم يقرّان لها به.
يقولون عند تحقّق مصلحة تأتي على أعقاب مشكلة: “رُبَّ ضارة نافعة”، قد تأتي الأقدار أو الصدف بأمر مثل هذا، لكن قليلون هم من يحسنون التسبب في الضرر لأنفسهم من أجل تحقيق المنفعة للجميع وكسب مصالحهم من وراء كل ذلك، وهذا عين ما فعلته الدبلوماسية الجزائرية بحكمة الرئيس تبون الرشيدة والمستبصرة.
أحمد عاشور