تملكني فخر شديد حين شاهدت الإقبال الجماهيري الغفير للعائلات الجزائرية والشباب والأطفال على فعاليات المهرجان الوطني للمسرح المحترف سواء لمتابعة مختلف العروض على ركح الخشبة أو للمشاركة في الورشات والندوات الثقافية التي تتزامن مع التظاهرة.. لقد كان المشهد استثنائيا، ليس فقط لأن الجمهور ملأ القاعات، بل لأنه جسّد شغفا خفيا وحقيقيا بالفنون الراقية التي باتت وللأسف غائبة عن حياتنا اليومية.. هذا الحضور اللافت أكد لي حقيقة واضحة وهي أن الجمهور الجزائري متذوق بطبيعته ومتعطش للفن الجميل.
إن المسرح بما يحمله من عراقة وأصالة، ليس مجرد منصة للترفيه.. بل هو أداة ثقافية لها قوة هائلة لرفع الذوق العام وتشكيل وعي المجتمعات، وكذلك هو نافذة لبعث القيم الجمالية، وأسلوب راق للتعبير عن قضايا المجتمع بطريقة تجمع بين الفكر والإبداع.. وعلى الرغم من محدودية الفعاليات المسرحية خصوصا في مناطق الظل إلا أن الإقبال الذي شهدناه مؤخرا على المهرجان الوطني يثبت حقيقة أن الناس اليوم باتوا يبحثون عن البدائل الثقافية التي تحمل محتوى قيما وهادفا بعيدا عن السطحية والابتذال الذي طغى على الكثير من الفنون الأخرى.
إن هذا المشهد الثقافي المحفز بات يقودنا لتساؤل مهم وملح: لماذا لا يكون المسرح جزءا من حياة المجتمع الجزائري بشكل دائم؟ ولماذا تظل مثل هذه الفعاليات محصورة في إطار المناسبات الكبرى أو المدن الرئيسية فقط؟.. إن المسرح بحاجة إلى أن يتاح للجميع وفي كل ربوع الوطن من المدن الكبرى إلى القرى الصغيرة.. نحن بحاجة إلى بناء فضاءات مسرحية جديدة، وتنظيم مهرجانات متنقلة تصل إلى كل ولاية وبلدية لتمنح لكل فرد مهما كان موقعه الجغرافي الحق في أن يكون جزء من هذا الحراك الثقافي.
ولا تنحصر مطالبتنا بتشجيع المسرح على الدعم المادي فحسب، بل في ضرورة خلق رؤية وطنية تدرك قيمته كرافعة ثقافية تبني وعيا متقدما؛ فتلك العائلات التي تجمهرت بغزارة رفقة أطفالها لم تأت لمجرد المشاهدة، بل لأنها ترغب في عيش تجربة ثقافية فريدة تكسر بها رتابة الأيام.. والأطفال الذين شاهدوا العروض لأول مرة لم يخرجوا بمجرد ذكريات عابرة، بل التقطت عيونهم فن الجمال الحقيقي وعقولهم مهارات التعبير عن الذات وهو ما من شأنه المساهمة في صقل شخصياتهم.
وفي الختام، لا بد من التأكيد على أن المسرح وعلى الرغم من التقدم التكنولوجي الهائل، لا يزال قوة مؤثرة قادرة على الارتقاء بالمجتمع وتحريره من قبضة التفاهة والسطحية.. لذلك وجب على الجهات الثقافية أن تتبناه كمشروع استراتيجي وطني لتشجيع قيم الإبداع والتفكير النقدي، وتعزيز دوره كأداة أساسية في نهضة الأمة.. علينا دوما أن نواصل الاستماع إلى صوت المسرح وأن نؤمن بخشبته في تشكيل الأجيال وصقل الوعي المجتمعي.
بقلم: حنان مهدي