إيمانويل ماكرون.. الرئيس الفرنسي الأكثر إثارةً للانقسام وشعبيته باتت في الحضيض

لقد اهتزت الأسس السياسية لفرنسا حتى النخاع، مما يمثل نقطة تحول تاريخية في رئاسة إيمانويل ماكرون، ففي خطوة غير مسبوقة، وجه البرلمان الفرنسي ضربة ساحقة لإدارة ماكرون في 4 ديسمبر 2024، عندما أطاحت حكومة رئيس الوزراء ميشيل بارنييه بتصويت ساحق بحجب الثقة، بعد أن حصل على 331 صوتًا، أشار الاقتراح إلى نهاية حاسمة للائتلاف الهش بين التجمع الوطني اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبان والكتلة اليسارية المعروفة باسم الجبهة الشعبية الجديدة.

وتنبع هذه الاضطرابات البرلمانية الدرامية من الاستخدام المثير للجدال من قبل بارنييه للمادة 49.3 من الدستور الفرنسي، وهو بند يسمح للحكومة بتجاوز الموافقة البرلمانية لسن القوانين، فقد أصبح مشروع قانون الميزانية، الممزوج بتدابير التقشف، نقطة الانهيار في دولة مثقلة بالفعل بعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي المزمن.

ولا يعكس التصويت بحجب الثقة عدم الرضا عن فترة ولاية بارنييه القصيرة فحسب، بل يعكس أيضًا خيبة الأمل المتزايدة في رئاسة ماكرون، والتي يُنظر إليها على نطاق واسع على أنها واحدة من أكثر فترات الانقسام وعدم الفعالية في تاريخ فرنسا الحديث.

تاريخ من الأخطاء السياسية

منذ توليه منصبه، ترأس ماكرون مشهدًا سياسيًا مجزأً للغاية. لقد أدى مشروعه الوسطي، الذي وعد ذات يوم بجسر الانقسامات الإيديولوجية فيه، إلى تفاقمها بدلاً من ذلك، كما أدى الاستدعاء المتكرر للمادة 49.3، التي استخدمتها رئيسة الوزراء السابقة إليزابيث بورن وبارنييه الآن، إلى تنفير المعارضة والجمهور، حتى أصبح هذا التكتيك، الذي يُنظر إليه غالبًا على أنه استبدادي، يرمز إلى تآكل المعايير الديمقراطية تحت قيادة ماكرون.

إن إقالة بارنييه تمثل المرة الأولى في تاريخ الجمهورية الخامسة التي يتم فيها الإطاحة بحكومة فرنسية من خلال تصويت بحجب الثقة – وهي شهادة على حجم عدم الرضا الذي يحيط برئاسة ماكرون، ما يؤكد أنّ التداعيات المترتبة على هذا الزلزال السياسي عميقة، فالبرلمان الفرنسي لا يزال مشلولا، منقسما إلى ثلاث كتل لا يمكن التوفيق بينها بدون أغلبية واضحة، ويتفاقم الوضع بسبب القيود الدستورية التي تمنع ماكرون من حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات جديدة حتى يوليو 2025، مما يترك الأمة في حالة من عدم اليقين في الحكم.

إخفاقات ماكرون: رئاسة في انحدار

لقد شاب رئاسة ماكرون إخفاقات على جبهات متعددة – اقتصادية واجتماعية ودبلوماسية، وأغرقت الإدارات المتعاقبة تحت قيادته فرنسا في ديون أعمق بينما فشلت في معالجة التفاوتات النظامية والاضطرابات الاجتماعية؛ فمن حركة “السترات الصفراء” إلى الاحتجاجات الواسعة النطاق ضد إصلاحات التقاعد، أشعلت سياسات ماكرون الغضب عبر شرائح متنوعة من المجتمع الفرنسي، وبهذا أفسحت وعوده بالإصلاح والوحدة المجال لواقع من الخلاف السياسي والركود الاقتصادي.

في عهد بارنييه، حاولت حكومة ماكرون تمرير ميزانية تهدف إلى خفض العجز من 6.1٪ من الناتج المحلي الإجمالي إلى 5٪، وكان من المقرر تحقيق ذلك من خلال زيادات ضريبية بقيمة 63 مليار دولار – وهو الإجراء الذي زاد من عزلة المعارضة، بل حتى التنازلات اليائسة لحزب التجمع الوطني بزعامة مارين لوبان والفصائل البرلمانية الأخرى فشلت في تأمين الدعم، مما ترك بارنييه معزولًا وضعيفًا.

ويعكس قرار ماكرون بتعيين فرانسوا بايرو، زعيم حزب الحركة الديمقراطية الوسطية، خلفًا لبارنييه جهدًا أخيرًا لتثبيت استقرار الحكومة، ومع ذلك، تظل قدرة بايرو على التنقل عبر البرلمان المجزأ موضع شك، إذ يؤكد المنتقدون أن استراتيجية ماكرون أعطت الأولوية باستمرار للإصلاحات قصيرة الأجل على الحلول طويلة الأجل، مما أدى إلى تعميق أزمة الحكم في فرنسا.

إيمانويل ماكرون: رئيس خان التوقعات

إن ماكرون اليوم بعيد كل البعد عن رمز الأمل الذي مثله ذات يوم؛ فعلى الرغم من أنه كان غير معروف نسبيًا أثناء صعوده، إلا أنه كان يُنظر إليه على نطاق واسع باعتباره صاحب رؤية قادر على إحداث تغيير عميق، وبدا أن خطاباته العاطفية، مثل تصريحه في الجزائر عام 2017 الذي أدان فيه الاستعمار باعتباره جريمة ضد الإنسانية، وبشّر بعصر جديد من القيادة التقدمية، ومع ذلك، وكما كشف الوقت – وخاصة بعد إعادة انتخابه لولاية ثانية – رسم ماكرون مسارًا بعيدًا تمامًا عن تلك الوعود النبيلة، مما ترك العديد من الأشخاص محبطين من رئاسته.

ولا تزال شخصية ماكرون، التي يكتنفها الجدل، تثير الجدل، فقد أثارت اختياراته الشخصية غير التقليدية وسلوكه ونظرته للعالم أسئلة مهمة، من زواجه المثير للجدال من معلمته السابقة، وهي امرأة أكبر منه سنًا بكثير وتزوجت ذات يوم، إلى نهجه الغريب في السياسة، ليظلّ مسار ماكرون ليس أقل من غير عادي فحسب – بل ومزعج للغاية بالنسبة للكثيرين.

وعلى النقيض من أسلافه، لم يكن صعود ماكرون متجذرا في النشاط أو عضوية الأحزاب السياسية؛ فهو يفتقر إلى التاريخ الغني للخدمة العامة الذي ميز الرؤساء الفرنسيين السابقين، بل إنه قضى سنوات تكوينه في عالم التمويل العالي، حيث عمل لدى روتشيلد وشركاه، وهي الجمعية التي يزعم المنتقدون أنها شكلت أولوياته بشكل عميق، وبعيدا عن خدمة الشعب الفرنسي، يبدو أن رئاسة ماكرون تعطي الأولوية لمصالح النخب المالية العالمية.

اليوم، غالبا ما يُرى ماكرون وهو يسافر عبر العالم، برفقة مجموعة من المديرين التنفيذيين في مجال الأعمال، ويدير صفقات يزعم المنتقدون أنها تخدم مصالح الشركات المتعددة الجنسيات والمؤسسات المالية على مصالح المواطن الفرنسي العادي؛ إذ تشير أفعاله إلى زعيم أكثر استثمارا في إثراء شبكة روتشيلد والشركات التابعة لها من معالجة القضايا الاقتصادية والاجتماعية الملحة داخل فرنسا.

لقد ترك التنافر بين الأمل الذي ألهمه ماكرون ذات يوم وواقع رئاسته العديد من الناس يشككون في إرثه، إذ أن ما كان يُنظَر إليه ذات يوم باعتباره بداية جديدة للسياسة الفرنسية يبدو الآن أشبه بمغامرة محسوبة لتعزيز أجندات النخبة العالمية، مع دفع الشعب الفرنسي الثمن.

وتؤكد زياراته الأخيرة إلى المغرب والمملكة العربية السعودية على هذا الواقع؛ فعلى الرغم من تجسس أجهزة الاستخبارات المغربية عليه وعلى وزرائه وحتى الصحفيين الفرنسيين، أعطى ماكرون الأولوية للصفقات المربحة على الكرامة الوطنية، وفي إطار تلبية مصالح النخب المالية، عرض على الملك محمد السادس تنازلات كبيرة، بما في ذلك الاعتراف بمطالبة المغرب بالصحراء الغربية ــ وهي المنطقة المعترف بها كإقليم غير متمتع بالحكم الذاتي ويحتاج إلى إنهاء الاستعمار، وتُظهِر السجلات التاريخية بوضوح أن الصحراء الغربية لم تكن قط جزءا من المغرب، كما يتضح من الخرائط والاتفاقيات الاستعمارية، مثل معاهدة إيكس ليه باين لعام 1956، التي منحت المغرب الحكم الذاتي الداخلي دون تأكيد أي مطالبة بالصحراء الغربية.

وتكشف تصرفات ماكرون عن رئاسة مدفوعة بتوجيهات بنوك روتشيلد والشركات التابعة لها، والتي عمل لصالحها سابقا. وعلى نحو مماثل، ركزت رحلاته إلى دول الخليج، بما في ذلك المملكة العربية السعودية، على تأمين العقود للشركات الفرنسية التي تربطها علاقات وثيقة بهذه المؤسسات المالية، مما عزز التصور بأن ولاءه الأساسي يكمن في النخبة العالمية وليس الشعب الفرنسي.

لقد أصبحت الانشقاقات في قيادة ماكرون واضحة بشكل صارخ في أعقاب إعادة انتخابه في عام 2022. فقد عانى حزبه من خسائر كبيرة في الانتخابات التشريعية، مما أدى إلى تآكل أغلبيته البرلمانية، وهذا النفوذ المتضائل ليس مجرد نكسة سياسية؛ بل إنه يعكس خيبة أمل أوسع نطاقا في إدارته، حيث اتهم رئيس الوزراء السابق إدوارد فيليب ماكرون بـ “تدمير” ائتلافه السياسي، وهو الشعور الذي ردده الجمهور، كما انخفضت نسبة تأييده إلى 23٪. وحتى حلفاؤه يعترفون بأن ماكرون يعاني من بعض الأيام الأكثر تحديا في رئاسته.

لقد مكن هذا الانحدار السياسي شخصيات مثل مارين لوبان، التي تظل منافسا قويا للرئاسة في عام 2027، على الرغم من العقبات القانونية المحتملة، وفي غضون ذلك، برزت حركة فرنسا الأبية التي يتزعمها جان لوك ميلينشون باعتبارها القوة المعارضة الأكثر تنظيما وتماسكا أيديولوجياً، حيث دعت إلى إلغاء الجمهورية الخامسة لصالح جمهورية سادسة أكثر تمثيلا، كما أدت مركزية ماكرون، التي اتسمت بالتقلب الأيديولوجي، إلى تنفير الناخبين الذين لم يعودوا يرون فيه شخصية موحدة.

إرث الانقسام

يُنظر إلى فترة ولاية ماكرون بشكل متزايد على أنها فترة من الخلل السياسي غير المسبوق، فقد تركت نقاط الضعف البنيوية للجمهورية الخامسة، إلى جانب فشل ماكرون في بناء الإجماع، فرنسا في حالة من الشلل، ويسلط المأزق الحالي الضوء على العيوب الأساسية للرئاسة التي أدت إلى تنفير الحلفاء وتشجيع الخصوم وتآكل الثقة العامة.

إن فشل الماكرونية لا يكمن فقط في عدم قدرتها على معالجة التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي تواجه فرنسا، بل وأيضاً في انفصالها عن الناخبين، إذ تحول ماكرون، الذي خاض حملته الانتخابية في عام 2017 باعتباره تقدميًا من اليسار، بشكل حاد إلى اليمين بحلول عام 2022، ليكشف عن رئاسة تشكلها مصالح الممولين وكبار رجال الأعمال بدلاً من احتياجات المواطنين العاديين، وقد تركت هذه الازدواجية العديد من الناخبين الفرنسيين يشعرون بالخيانة من قبل زعيم وعد بالتجديد لكنه حقق الانقسام والركود.

إن الاضطرابات السياسية الحالية في فرنسا تؤكد على هشاشة حزب ماكرون وقدرته المتضائلة على استقرار الأمة، ومع تآكل ثقة الجمهور وتفكك ائتلافه، ارتفعت الدعوات إلى استقالة ماكرون!