يحتفل العالم اليوم بمرور الذكرى 75 للإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي أقرته الأمم في شهر ديسمبر 2023، هذا الإعلان الذي أصبح اليوم في الثلاجة حفظ الموتى بسبب عدم جدواه إثر كفر الحكومات العالمية به وعدم إكتراثها بتنزيله وتفعيله وتطويره، وضربها عرض الحائط بكل القيم الذات الصلة وتماديها عبر التنصل من وعودها وإلتزاماتها بخرقه أو غض الطرف عن خرقه.
إن واقع البؤس هذا الذي يعيشه العالم اليوم إثر تفشي الوحشية والبربرية، بعث حالة من اليأس والتذمر في نفوس أغلب المناضلين والمدافعيين عن حقوق الإنسان في العالم بعد أن فقدوا ما تبقى من أمل ووصلوا إلى مرحلة الشك بعدم جدوى إحترام حقوق الإنسان والرقي بها، وأن تصبح أداة ردع لكل من تسول له نفسه إهدار الكرامة البشرية أو تطاول على حقوق وحريات الغير و أن تصبح منظومة حقوق الإنسان أداة رادعة تمنع الممارسة المشينة وغير اللائقة والمنحطة من الكرامة البشرية، وشتى أنواع الظلم والقهر والذي يتعرض له ملايين البشر في مختلف مناطق العالم، في ظل تفشي النظام البربري والوحشي السائد وغطرسته و وعقيدته السادية التي تحتكم إلى مبدأ القوة والنفوذ والمصالح وكذا الإستغلال الوحشي للإنسان، دون إيلاء أدنى إعتبار أو أهمية لمنظومة حقوق الإنسان التي يفترض أن تكون في الأصل بوصلة التعامل بين الشعوب والأمم والأفراد والجماعات.
يبدو أن منظومة حقوق الانسان اليوم أمست مجرد سوط بيد اللوبي المالي العالمي المتحكم، يجلد به البنك الدولي وصندوق النقد الدولي حكومات الجنوب كأداة تركيع في أي عملية ابتزاز ونصب إقتصادية تروم تحصيل مصلحة محددة لذات اللوبي، وتساهم في سرقة مقدرات الشعوب، وإثقال كاهلها بالديون للتحكم فيها في مرحلة أخرى متطورة من الإستغلال، تتنافى مع مقاصد منظومة حقوق الإنسان غبر بإستعمال جزء مبتور من الحقوق مفصلة لغاية معينة لا تخدم إطلاقا تحرر الانسان وانعتاقه وتنميته بقدر ما تخدم أجندة ساسوية معينة.
إن الغاية من منظومة حقوق الإنسان الكونية وجوهرها ومضمونها وأهدافها ومراميها تسعى إلى أن يكون الإنسان كريما حرًا يتمتع بكل حقوقه على قدر كبير من المساواة والعدل والحرية، بعيدا عن أي تمييز، لا أن تسخر بشكل مشوه لخدمة غايات محددة بعيدة عن هموم الشعوب وقضاياها الأصلية والحقيقة، فمن مرحلة التجزئ المقصود للمبادئ، وصلنا إلى مرحلة تفصيلها على مقاص يخدم مصالح معينة وأهداف ساسوية معينة غاية في الرخص تقوم على تحقيق مصالح ضيقة تخدم فئة معينة ومحددة.
يشاهد العالم منذ شهرين حرب الإإبادة الجماعية وجرائم الحرب التي تخوضها الصهيونية ضد المدنيين العزل بقطاع غرة بفلسطين، ضحايا هذا الهجوم الوحشي الذي أوقع إلى الآن حوالي عشرين ألف مدني 70/° منهم اطفال ( 5000) ونساء وشيوخ، وتهجير حوالي مليون و200000 ألف مدني من منازلهم وتدمير البنى التحتية ” المستشفيات ومراكز العلاج ( مستشفى الشفاء، مستشفى الرنتيسي، المدارس ودور المسنين وأماكن العبادة … “في تحدٍ صارخ لقواعد القانون الدولي الإنساني، والقانون الدولي لحقوق الإنسان بل مقصود.
لقد تابعنا جميعا كيف قُصِفت المنشآت السكنية المدنية فوق ساكنيها، وكيف كانت تتطاير أشلاء الأطفال تحت الركام وفوق الأرض، وجثث النساء والشيوخ جرائم حرب وإبادة جماعية ترتكب بشكل ممنهج بعيدة كل البعد على أن تكون أهداف عسكرية أو شبه عسكرية، لن ينس العالم تلك الصور التي تعكس بشكل جلي بؤس الإنسانية وفظاعة ما وصلنا إليه اليوم من موت القيم ومتلازمة فقدان الشعور، لقد تابعنا إقدام الإحتلال الإسرائيلي على إعتقال عشرات المدنيين وتجريدهم من ملابسهم في الشارع العام وإذلالهم أمام العالم بسادية ووحشية مقيتة إعتاد عليها هذا الإحتلال المجرم بإيعاز وتشجيع من الغرب وأمريكا التي استعملت حق “الفيتو” ضد مشروع يطالب بوقف إطلاق النار، ووقف الحرب بشكل فوري في غزة وإنهاء الكارثة الإنسانية.
في ظرف شهرين سقط ما لم يسقط في حرب أوكرانيا من النساء والأطفال والمدنيين، لقد تابع العالم الهجوم على المستشفيات والمدارس ودور العبادة وقتل الصحفيين والنشطاء الذين يعملون في مجال العمل الانساني و المفترض أنهم محميين بموجب القانون الدولي الإنساني، واتفاقيات جنيف الأربعة والبروتوكلات الملحقة بها، بالإضافة إلى ماورد في وثيقة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر سنة 1948 من نصوص تجرم بشكل قطعي هذه الفضاعات والجرائم.
إننا نعيش أمام مرحلة خطيرة من السقوط الإنساني، مرحلة سقوط أقنعة ظلت لمدة تصدع رؤوسنا بشعارات براقة كدنا نخدع بها، اليوم تبخر كل شيء في لمح البصر، وتنكر الغرب بعد أن أغمض عيونه عن هذه الجرائم التي انخرطت حكوماته فيها وتورطت حد أغمص اليدين.
إننا نقف مصدومين نحن الذين آمنا بما يسمى بالدفاع عن ثقافة حقوق الإنسان والعمل على إشاعتها، لقد كنا حقًا سذج نعيش في غيبوبة عن الواقع، ونسكن في مدينة أفلاطون الفاضلة خارج سياق الواقع، لقد بات يساورنا الشك اليوم أن هذه المنظومة لا تزال ذات قيمة في ظل بؤس الإنسانية إثر ما شاهده العالم من صورة توثق الفضاعات والجرائم، صور ستبقى شاهدة على نفاق وإزدواجية المعايير الغرب وإزراءه بأرواح البشر الذين لا يحملون نفس لون البشرة الشقراء، إنهم لا يرون ما يقع في دول الجنوب بذات العيون التي يرون بها أوكرانيا مثلا.
سيذكر التاريخ كيف فضحت أحداث غزة نفاق الغرب، وكشفت الحقيقة بعد سنوات من البروباغاندا الإعلامية.
كلنا نستخضر كيف كان العالم منذ أقل من سنة، وكيف جيّش الغرب وأمريكا و سخروا كل شيء في سبيل أوكرانيا، ووضعوا كل الإمكانيات والمؤسسات التي تعمل تحت يافظة “حقوق الإنسان” “الديمقراطية” لتصبح منصات هجوم، وكيف تم وضع مؤسسة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي واللجنة الدولية للصليب الأحمر ومحكمة العدل الدولية والمنظمات الدولية ذات التأثير في حالة إستنفار بالإضافة الى الإعلام.
اليوم وبقدرة قادر اأغلفت تلك الدكانين وأدارت ظهرها للمآسي والفظاعات الإنسانية التي يعيشها المدنيين في غزة، ما هذا العهر الذي نعيش فيه، في المقابل نرى إنخراط البعض وإصطفافه الأعمى والمفضوح إلى جانب إسرائيل، والهرولة إلى تقديم الدعم بهذا الشكل الحقير من الرعونة والشوفينية المقيتة بدون أدنى حرج.
لن ننسى أبدا أن فرنسا الحرية، وفرنسا عصر الأنوار والنهضة الإنسانية “1689” وعصر التنوير “1715” والثورة فرنسا “1789” لقد أطفئت الأنوار بعد أحداث غزة الأخيرة إثر قمع الدولة الفرنسية للمظاهرات ومنع كل أشكال التضامن مع فلسطين، ومصادرة الحق في التعبير الحر، وسن قوانين تقيد كل أشكال التضامن مع فلسطين بلد تجرمها، و ذات الحالة في ألمانيا التي أقدمت هي الأخرى على منع كل أشكال التضامن مع فلسطين والتضييق على نشطاء سياسيين وحقوقيين، والمتضامنين والداعمين لفلسطين.
وفي تطور خطير، تابعنا كيف دفع بعض النشطاء السياسيين والحقوقين ضرائباً ثمنا لهذه المواقف المعبرة عن التضامن مع فلسطين من خلال طرد العشرات منهم من العمل في إنتهاك صارخ واضح وخطير لحقوق الإنسان وحق الفرد والجماعة في التعبير الحر عن آرائهم ومواقفهم بشكل سلمي وحضاري، وكيف جرد مواطنون من أوراق إقامتهم، ومنع آخرون من تجديدها وكيف تم ترحيل بعضهم الآخر، لقد كنت أتابع ذلك وأنا حديث العهد في أوروبا، وقد خلق لدي حالة من الصدمة والذهول وخيبة الأمل في مجتمع مكان ما كنت لأصدق أن هذا قد يحدث في حضارة إنسانية ضحت شعوب الغرب من أجلها، ودفعت ملايين الأرواح بعد الحربين العالميتن وانتهاء عصر الإنقطاع والقضاء كليا على الأنظمة الفاشية والإستبدادية، القهر، الطبقية والإستغلال ، لا أحد ينكر إمتعاضه وتذمره من هذا الموت السريري الذي تعيشه القيم والمبادئ الإنسانية جراء هذه الردة وعملية الزحف الممنهجة على الحقوق، لقد كنت أعتقد أن الفرد له الحق بأن يعبر عن رأيه دون خوف من أن يتعرض لأذى أو عقاب، حسب ما يكفله الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي تصادق عليه أغلب دول الإتحاد الأوروبي، إلى أن شاهدت العكس وبصور باتت تتطور بشكل يدعوا إلى إتخاذ إجراءات عاجلة من أجل إنقاذ ما يمكن انقاذه، لقد بتنا نشاهد تورط جهات بعينها في ممارسة القمع المقنع والانتقام من كل الأصوات التي تنتقض وحشية الكيان الصهيوني أو التي تجاهر بدعمها لفلسطين.
كل ما تذكرت أن لدى صديق طرد من العمل بمجرد أنه ناقش خلال فترة الإستراحة مع احدى زميلاته الوضع في غزة وعبر عن رفضه لقتل المدنيين والاطفال والنساء، تم فصله في اليوم التالي بسبب هذا الموقف لا يعتبر هذا قمعا للحريات ومرحلة جديدة من البربرية وعودة الفاشية، إنه يشعرني بالخوف من غد مجهول أكثر وحشية.
لا أحد اليوم في أوروبا يمكنه التعبير بكل حرية عن موقف واضح يناصر القضية الفلسطين دون دفع تكلفة وضريبة لذلك الموقف، كيف يمكن لنا أن نؤمن بعد هذا الذي عشناه خلال أكثر من شهرين في حرب غزة من فضاعات ومآسٍ إنسانية عرت بؤس الإنسانية وكشفت زيف الشعارات المرفوعة، والتغني بالدفاع عن كرامة الإنسان وحريته وتنميه، كيف سنصدق نحن الذين نناضل ونسعى لتحرر الإنسان وإنقاذه بعد ما شهدناه من حجيم وتنكيل وجرائم حرب، وجرائمٍ ضد الإنسانية ُإرتكِبت ولا تزال ترتكب إلى اليوم في حق المدنيين بقطاع غزة، مقابل صمت وتواطئ العالم بجدوى منظومة حقوق الانسان كمحدد أخلاقي وقيمي يتوجب أن يشكل أداة تنظم العلاقة بين الجماعات والأفراد.
لا أخفيكم سرا أن قناعتي إهتزت بسبب ما وصل إليه العالم اليوم من وحشية وتنكر وقفز على كل الإعتبارات الإنسانية، وزحف على المكتسابات والحقوق، مفزع حقا هذا الواقع.
أنا أتحدث من موقع مدافع عن حقوق الإنسان، يؤمن بضرورة الدفاع عن هذه القيم والمبادئ، كنت أعمل بالجزء المحتل من الصحراء الغربية، أين تتجلى صور أخرى من القمع والتنكيل والحصار والتضييق ضد شعب أعزل، شعب استعمرت أرضه وقسم شعبه ولا يزال جزء من أبنائه في سجون قوة الإحتلال المغربي يعانون منذ أكثر من 13 سنة، بعضهم حكم عليه بالمؤبد والآخرون أحكام غير شرعية وطويلة المدة يعيشون المعاناة في ظل تخاذل العالم وصمته.
لقد وصلت إلى قناعة بعد إجراء تقيم لما يمكن أن تحققه منظومة حقوق الإنسان من طروف للشعوب والجماعات والأفراد وقد خاب أملي حقا، وتبخر بصيص الضوء الذي كنت أحمل في عتمة الظروف القاسية التي يعيشها العالم ولم يعد هناك أمل في التطور والتغيير إلى حياة أفضل على أساس العدل والحرية والمساواة.
لا أخفيكم سرا أنني وصلت إلى قناعة، وأنني لا أستبعد أي شيء بما في ذلك تعرضي للتضييق بسبب هذا الرأي النقذي للواقع الأليم.
فما حدث في فلسطين وبالرغم من حجم التضامن الأممي والتعبير عن الرفض على المستوى الشعبي كشف بشكل جلي وواضح أن العالم اليوم وللأسف لا يستجيب إلا لمنطق القوة، والقوة فقط وإن معادلة “صراع قوة الحق مع حق القوة” قد حسمت لصالح حق القوة.
استحضر هنا أنه برغم الدمار الذي لحق بغزة لم يكن الإحتلال الإسرائيلي ليطلق أسرى فلسطين لولا صفقة التبادل بين اسرائيل وحماس التي تمت قبل أيام، فلم يكن من الممكن أن ينعم هولاء بالحرية بفضل ما تقدمه المنظمات الدولية والأمم المتحدة عبر بياناتها وحملات الإدانة وغير ذلك غير المجدية اليوم لأسباب معروفة يعلمها الجميع.
في المقابل هناك عشرات السجناء السياسين مثلا في الصحراء الغربية يواجهون نفس المصير في ظل تعنت قوة الإحتلال المغربي الذي فرض عودة الحرب وفي فسلطين وفي أماكن أخرى من العالم.
هذا يؤكد ما ظلت الحركة الحقوقية تدعوا إليه سواء بالجزء المحتل من الصحراء الغربية، أو في أماكن أخرى من العالم تعبر لسنوات وتدعوا إلى الرقي بحقوق الإنسان وحمايتها لتجنب الحروب والكوارث الإنسانية تكرر الدعوى والمناشدات في آذان صماء غير مكترة.
إن شهية قوى الشر وتعطشها إلى المزيد من الدماء، سيقود العالم إلى مرحلة خطيرة من البربرية بذات الواقع، وستواجه نفس المصير، ربما لن يستجيب العالم إلى بعد فوات الأوان هناك.
إن هذا الوضع يدفع إلى الشعور بضرورة التمرد على هذا الواقع المفروض الذي يتحمل الجميع المسؤولية فيه، كما يتحمل الكل عواقبه.
أجد نفسي أقرب إلى تصدق قول أحدهم الذي قال : “الواقع اليوم يقول أن منظومة حقوق الانسان هي سلاح يستخدمه الغرب لتحقيق أهداف سياسية، وتنفيذ أجندة معينة كغزو العراق وأفغانسان وسوريا و ليبيا وإدانة روسيا، هذه أداة تستعمل اليوم لتحقيق أهداف معينة تخدم مصالح الغرب، لقد أصبحت تطبيق هذه منظومة يكمل مهام حلف قوات النيتو.
من يمكنه أن يثبت عكس ذلك؟
بابوزيد محمد سعيد لبيهي – ناشط حقوقي من الصحراء الغربية بروكسيل/ بلجيكا