الذكرى 45 لإنتصار الثورة الإسلامية الإيرانية… الوحدة الإسلامية ونصرة القضية الفلسطينية نصب العين
“المقاومة الفلسطينية الآن أقوى بعد انتصار الثورة الإسلامية، وبقيادة الإمام الخميني سنُحرّر فلسطين” (ياسر عرفات – 19 شباط/فبراير 1979).
بهذه الكلمات إفتتح الرئيس الفلسطيني الراحل، ياسر عرفات، السفارة الفلسطينية في طهران، بتاريخ 19 شباط/فبراير من عام 1979م، حينما أُسقِط العلم الصهيوني، ورُفع مكانه العلم الفلسطيني بعد أيام من “عشرة الفجر”، لتبدأ بعد ذلك مرحلة جديدة من تاريخ النضال الفلسطيني والدعم الإيراني لهذه القضية، فضلا عن تكريس مفهوم الوحدة الإسلامية، ونصرة المستضعفين أينما كانوا.
واليوم، ونحن نحيي الذكرى الخامسة والأربعين لانتصار الثورة الإسلامية على الشاه الإيراني، عميل القوى الإستكبارية في المنطقة، نستذكر جهود هذه الثورة في تكريس مفهوم الوحدة الإسلامية للدفاع عن قضايا الإسلام الجوهرية، ومواجهة التحديات الخارجية بأشكالها المختلفة، فضلا عن الحضور الدائم للقضية الفلسطينية التي كانت ولا تزال نصب العين، باعتبار الجمهورية الإسلامية الحاضنة والرافعة الأساسية في دعم فلسطين والمقاومة ونصرتهما.
ساهم الشعب الإيراني بكافة قواه وفصائله في ميلاد ثورة مباركة، لم تتخلّف أيّة مدينة فيها عن تقديم قوافل من الشهداء، فقد جابهت الثورة الإسلامية أشرس طاغية في المنطقة، متحدية كل وسائله القمعية لمدة عام كامل تقريباً، قدَّم فيها الشعب الإيراني عشرات الآلاف من الشهداء.
شكلت هذه الثورة حركة حضارية ونهضة ثقافية بامتياز بالرغم من محاولات العزل والتحجيم والحصار التي استهدفتها منذ اندلاعها. فعلى الرغم من الحرب الاقتصادية المفروضة عليها من قبل القوى الكبرى والحرب العسكرية التي استنزفت قدراتها لأكثر من ثماني سنوات، سطع نجم هذه الأمة الأبية الرافضة للخنوع.
كانت الثورة منذ إنطلاقتها المباركة علی عداء مع المشروع الأميركي في الهیمنة على مقدرات الدول الإسلامیة وتقسيمها إلى فرق وجماعات يسهل افتراسها، فعملت على إحباط جميع المؤامرات والمخططات، ودعت العالم الإسلامي لذلك، فصانت بذلك مبادئها التي قامت عليها، على عكس التجارب الحزبية آنذاك، والتي عانت من الانفصال بين القول والفعل، وبين الشعارات التي تدعو إلى العدالة وحقوق الناس ومواجهة العدو الصهيوني، من جهة، وبين ممارسة عبثية غارقة في وحول الزواريب الضيقة والمصالح الشخصية وغيرها من جهة أخرى.
فمنذ بزوغها في ستينيات القرن الماضي بعد خطاب ناري لمساحة الإمام الخمینی (1902-1989)، هاجم فیه نظام الشاه بسبب منحه حق الحصانة القضائية للمستشارين الأمريكيين في إيران، تمكنت هذه الثورة من تجسيد واقع متفرد عن الشرق والغرب، معلنة ولادة أمة أبية قادرة على مواجهة كل المؤامرات، لتبزغ بذلك دولة علمية راسية بفضل عقول علماء من الطراز الأول بشهادة القاصي والداني، خرقت تبعية السوق والسلاح، لتستحق عن جدارة موقعها وتقدمها.
الهوية الإسلامية والعقائدية والإنسانية والفكرية للثورة الإسلامية
تفردت الثورة الإسلامية بهويتها الإسلامية والعقائدية والإنسانية والفكرية، فضلا عن إشراك كل أطياف المجتمع من الرجال والنساء في نجاحها، غير أن الفضل الأكبر يرجع لمفجّرها الإمام الخميني الذي أطلق شرارة الثورة من المدرسة الفيضية في مدينة قم في العام 1963 م بخطاب مجلجل ضد نظام الشاه محمد رضا بهلوي، الذي كان في ذلك الحين في أوج قوته وسطوته، بفضل الدعم الأميركي والبريطاني.
زاوجت الثورة الإيرانية في صلب سياستها بين التطور الاقتصادي والعلمي، فتمكنت من بناء دولة لها ثقلها وحضورها وعمقها وتأثيرها في محيطها الإقليمي وعموم الفضاء الدولي، حيث أسست لمتغيراتٍ إقليمية ودولية منذ انتصارها، وما تبع ذلك من ترتيبٍ في خارطة الواقع السياسيّ على مستوى المنطقة ككل، كما أسست نظاما سياسيا متفردا يُشكل هويتها الأساسية، يجمع بين سياقات وآليات المفاهيم السياسية المعاصرة كالديمقراطية والتعددية من جهة، وبين قيم الدين الإسلامي ومبادئه من جهة أخرى.
لم تنسها شؤونها الداخلية وعزمها على بناء دولة متفردة الالتزام بمبادئها التي قامت عليها، فاستطاعت بذلك التوفيق بين الثوابت الوطنية والدينية، ومصداقية الشعارات التي رفعتها، والمتمثلة في تأمين الرخاء والدعم الكامل للأمة الإسلامية لتحقيق هدف الإسلام النبيل، المتمثل في الوحدة بين المسلمين.
فقد كان الخطاب التاريخي للإمام الخميني، رحمه الله، اللبنة الأساسية لتحقيق هذه الغاية النبيلة، حيث ألزمت الثورة نفسها برفع شعاري الوحدة الإسلامية وفلسطين قضية الإسلام الأولى. وعلی هذا النحو، كان أول إجراء قام به قياديو الثورة في یوم انتصارها (11 شباط/ فبرایر 1979) هو تحویل سفارة العدو الصهیوني في قلب طهران إلی سفارة دولة فلسطین.
وفي اليوم الموالي، أي 12 شباط، عقد الإمام الخميني العزم على تكريس مبادئ الدين الإسلامي الأصيل، آخذا على عاتقه بناء دولة إسلامية ذات أسس راسية، ترتبط ارتباطا وثيقا بهوية الشريعة الإسلامية الأصيلة، وعلى رأسها: الوحدة الإسلامية، مصداقا لقوله تعالى: ” إِنَّ هَٰهذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ” سورة الأنبياء (92)، فهتف بالمسلمين بأن لهم جنسية إسلامية واحدة، قوامها الإيمان بالله ورسوله والتسليم لهما، ولهم وطن واحد، وثقافة ملموسة، وطقوس معلومة، مصدرها الكتاب والسنة المحمدية الأصيلة.
ولأن المبادئ التي قامت عليها الثورة الإسلامية مبادئ جوهرية في الدين، ترتبط ارتباطا وثيقا بالعقيدة الإسلامية، لم تكن عرضة للتقلب والتغيير، مما يجعل هذا اليوم، أي ذكرى انتصار الثورة الإسلامية المباركة، متجددا بالتحديات وبتجديد العهد على مواجهة قوى الاستكبار العالمي وتوحيد صفوف المسلمين على كلمة واحدة، وصدق من قال: “إن الثورات الحقيقية تتجدد في كل عام، لا تشيخ ولا تهرم، بل تكسب من الخبرات والقدرات ما يصلب عودها، ويثبت بنيانها”، ولأن نهج الوحدة الإسلامية هو بمثابة سياسة ثابتة مبدئية غير قابلة للتقلب والتبدل، فإننا نجد هذا المفهوم يتعمق سنة بعد أخرى.
جعل هذا الالتزام النبيل الجمهورية الإسلامية دائمة التأثير والحضور في المشهد العالمي، بأبعادها السياسية والفكرية والثقافية والإنسانية، وملهمة للكثيرين، حتى أتباع الديانات الأخرى وأصحاب الأفكار والنظريات والآراء البعيدة عن الفكر الإسلامي، لما تحمله من مبادئ إنسانية أرساها مفجرها وعقلها المدبر الإمام الخميني.
وفي هذا الصدد، يصف القس المسيحي الماروني يوحنا عقيقي الإمام الخميني بأنه “كان عنصراً فاعلاً ومؤثراً للغاية، وشخصية بارزة صانعة للتاريخ. وقد استطاع أن يغيّر مخططات الجغرافيا السياسية المهيمنة على منطقة الشرق الأوسط، وهو – أي الإمام الخميني – لم يحيِ البعد الروحي فقط، بل والبعد الانساني أيضاً، وليس للشعب الإيراني وحده، إنما للإنسانية بأسرها أينما وجدت”.
ويقول وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، وهو الذي يعدّ من أبرز الشخصيات المؤثرة في المنظومة السياسية والفكرية المعادية للثورة الإيرانية وزعيمها: “لقد جعل آية الله الخميني الغرب يواجه أزمة حقيقية في التخطيط. كانت قراراته مدوّيةً كالرعد، بحيث لا تدع مجالاً للساسة والمنظرين السياسيين لاتخاذ أيّ فكر أو تخطيط. لم يستطع أحد التكهّن بقراراته بشكل مسبق.
كان يتحدَّث ويعمل وفقاً لمعايير أخرى تختلف عن المعايير المعروفة في العالم، كأنه يستوحي الإلهام من مكانٍ آخر. إنَّ معاداته للغرب نابعة من تعاليمه الإلهية. وقد كان خالص النية في معاداته أيضاً”.
الثورة الإسلامية وتكريس مفهوم الوحدة الإسلامية
صانت الجمهورية الإسلامية ثوابتها وشقت طريقها بخطوات ثابتة، متمسكة بحقوق المستضعفين والدفاع المستميت عنهم بما يُساهم في تعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي، ويُكرس المصالح المتبادلة، ويُعالج الأزمات المتشابكة. ومما لا يختلف عليه إثنان هو نجاح الجمهورية الإسلامية الإيرانية في بناء علاقات متوازنة مع محيطها الإقليمي، رغم التشنجات وأجواء الحروب والصراعات الدموية، كما تمكنت من بناء علاقات متوازنة مع مختلف أطراف المجتمع الدولي، لاسيما المهمة منها، كالاتحاد الأوروبي واليابان وروسيا والصين، واضطلعت بأدوار إيجابية في معالجة أزمات ومشكلات عويصة، وأفلحت في إحباط الكثير من المؤامرات والمخططات الهادفة إلى زعزعة استقرارها الداخلي وإقحامها في دوامة صراعات مع هذا الطرف أو ذاك، من أجل إضعاف قدراتها وإمكانياتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، وبالتالي باتت تمثل لاعباً فاعلاً ومؤثراً، ليس على الصعيد الإقليمي فحسب، إنما على الصعيد الدولي أيضاً، وباتت تشكل رقماً صعباً في المعادلات السياسية، لا يمكن بأيِّ حال من الأحوال تجاوزه أو تجاهله.
وبالرجوع إلى بدايات الثورة الإسلامية المباركة، نجد أن الجمهورية الإسلامية الإيرانية قامت على شعارين إثنين هما: “لا شرقية لا غربية، جمهورية إسلامية”، و”لا سنية لا شيعية، إسلامية إسلامية”.
يُشكل هذان الشعاران دليلا دامغا على هوية الجمهورية التي جاهرت بتمسكها بالمنهج الإسلامي الحنيف، بعيدة كل البعد عن الشرق بقيادة الإتحاد السوفيتي، ولا تميل إلى الغرب الذي تهيمن عليه الإرادة الأميركية، دولة المصالح المادية المحكومة بمصالح الشركات الصناعية والتجارية والمالية، أما شعار لا سنية لا شيعية، فهو رفض التعاطي مع الأمور بمنظور مذهبي، فالجمهورية منفتحة على الإسلام العظيم بأبعاده الاجتهادية والفقهية التي تمثل ثروة فكرية وقانونية وتشريعية واسعة، فإيران تعتبر الإسلام إسلاماً واحداً موحداً.
طمحت الجمهورية الإسلامية الإيرانية منذ بداياتها إلى إرساء مبادئ الإسلام العالمي وبناء حضارة إسلامية شاملة، تُمكّن المسلمين من تقرير مصيرهم دون تدخل من قوى الشر العالمية.
ولعل أهم وثيقة تُثبت صدق هذا العزم هي دستور الجمهورية الإسلامية، ففي هذه الوثيقة التي تُعتبر، عالميا، القانون الأول للبلدان مقارنة مع كل الوثائق والقوانين والتنظيمات والتشريعات الوضعية التي تضبط عمل السلطات وتنظم الصلاحيات فيما بينها، نجد الجمهورية الإسلامية الإيرانية تنادي بالوحدة الإسلامية، ومن أهم العبارات الوحدوية ما جاء في البندين الخامس عشر والسادس عشر من المادة الثالثة، وجاء فيهما:
1 ـ تعزيز الأخوّة الإسلامية والتعاون الجماعي بين الناس كافة.
2 ـ تنظيم السياسة الخارجية للبلاد على أساس المعايير الإسلامية والالتزامات الأخوية تجاه جميع المسلمين والحماية الكاملة لمستضعفي العالم.
فضلا عن المادة الثالثة عشر، التي تنقل حرفيا الآية الكريمة: “إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون” سورة الأنبياء (92)، مع إضافة نصها الحرفي: “يُعتبر المسلمون أمة واحدة، وعلى حكومة جمهورية إيران الإسلامية إقامة كل سياساتها على أساس تضامن الشعوب الإسلامية ووحدتها، وأن تواصل سعيها من أجل تحقيق الوحدة السياسية والاقتصادية والثقافية في العالم”.
تُبين هذه المادة حرص الجمهورية الإسلامية على تكريس مفهوم الوحدة الإسلامية لإحداث قفزة فكرية وثقافية واقتصادية نوعية في العالم الإسلامي، على عكس بعض الدول التي تنتهج نهجا طائفيا إرتبط منذ العصور الأولى بالإستبداد السلطوی والسلطان الجائر، والیوم يمُثل الركیزة الأساسية للمشروع الصهیوأمیركي في المنطقة.
أما فيما يخص التفاصيل المذهبية، نجد المادة الثانية عشرة من الدستور الإيراني، تضمن المساواة بين المذاهب الإسلامية جميعها دون استثناء، إذ تتمتع المذاهب الأخرى، والتي تضم المذهب الحنفي والشافعي والمالكي والحنبلي والزيدي باحترام تام، وبالحقوق الكاملة دون نقصان، كما أن أتباع هذه المذاهب أحرار في أداء طقوسهم المذهبية حسب فقههم الخاص ولهم حرية التعامل فيما بينهم، خاصة ما تعلق بالدعاوي والقضايا في المحاكم، وفقا للنصوص الفقهية الخاصة بكل مذهب.
وتنتشر هذه المذاهب في مناطق سیستان وبلوتشستان وشمال جرجان وخراسان وهرمزكان وكردستان، ولعلمائهم حضوه ومكانة مرموقة في الدولة ولدی السلطة أيضا.
ومن جهته، وإيمانا منه بوحدة المسلمين وأن الإسلام في جوهره عابر للقوميات وفوق المذهبية والقبلية والإنتماءات الجاهلية، أصدر السيد علي الخامنئي فتوى بارزة تحرّم شتم رموز السنة، فهو القائل: “تنتهج الثورة الإسلامية طريق الدفاع عن القرآن والسنة، وإحياء الأمة الإسلامية، وتُعلن بصوت مرتفع إيمانها بنهضة الشعوب (لا بالإرهاب)، وبوحدة المسلمين (لا بالغلبة والتناحر المذهبي)، وبالأخوة الإسلامية (لا بالتعالي القومي والعنصري)، وبالجهاد الإسلامي (لا بالعنف تجاه الآخر، وهي ملتزمة بذلك إن شاء الله). “من خطبة الإمام الخامنئي (صلاة الجمعة – طهران– 03/02/2012م).”
فلطالما دعا السيد الخامنئي إلى الوحدة والتكامل الإسلامي، مؤكدا رفض الخوض في أي صراع داخلي مع أي دولة إسلامية بصرف النظر عن طبيعتها بهدف تحقيق هذا المبدأ النبيل، مرددا حديث النبي الله محمد (ص): “المؤمنون كالجسد الواحد”.
وفي ذات السياق، دأبت الجمهورية الإسلامية الإيرانية على زرع بذور التقريب بين المسلمين من خلال عقد مؤتمر التقريب بين المذاهب الإسلاميَّة، في أسبوع ولادة النور حبيب الله، محمد بن عبد الله المصطفى صلى الله عليه وسلّم، خير المرسلين وسيّد الوصيّين، وهي مبادرة سنوية، تُقام تحت إشراف المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية، وتجمع تحت سقف واحد رموز المذاهب والطوائف والأديان وكبار رجالات مجامع التقريب والحوار والوحدة والإتحاد، وفق منطق قرآني یقول: «تعالوا إلی كلمة سواء»، و«إنما المؤمنون إخوة»، وحديث نبوي شريف: ( مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ الواحد؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى )، وحكمة علویة شهیرة: ” إما أخ لك في الدین أو نظیر لك في الخلق.”
يستعرض المشاركون في هذا المؤتمر تاريخِ الوحدة بين المسلمين، مجددين الولاء لميثاقَ الوفاء والقرب والإتحاد، مصداقا لقوله تعالى: (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا….) “آل عمران – الآية 103”، وقوله تعالى: (إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون) “الأنبياء / 92″، وفي آية أخرى: (وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون) ” المؤمنون / “52”، فقد خاطب اللّه المسلمين بأنهم أمة واحدة في ظل ربوبيته التي تُلزمهم بعبادته وتقواه، فالإتحاد هو الشرطِ اللازم لإحقاقِ الحضارة الإسلامية، خاصة بعد تعمق الفجوات بسبب الفتاوى المغرضة وموجات التكفير.
تحرير فلسطين…بوصلة الثورة الإسلامية
لتحقيق هذا المسعى النبيل، تبذل الجمهورية الإسلامية جهودا حثيثة للدفاع عن المسلمين وقضاياهم، أبرزها القضية الفلسطينية، فقد احتلت هذه الأخيرة مقدمة اهتمامات الإمام الخميني، منذ لحظة إطلاقه حملته الثورية في الستينات، فكانت مضلومية الشعب الفلسطيني الفكرة المحورية لكل خطاباته، ومن بعده خطابات المرشد الأعلى، آية الله سيد علي خامنئي، الذي يعتبر القضية الفلسطينية معيار قياس التزام المرء بالحرية وبحقوق الإنسان. فقد أبدى السيد الخميني معارضة شرسة للشاه إثر تحويله الاقتصادَ الإيراني إلى سوق لاستيراد كميات كبيرة من السلع والبضائع القادمة من الكيان الصهيوني.
ترجع العلاقة بين الإمام الخميني والثوريين الفلسطينيين إلى ما قبل إنتصار الثورة الإسلامية. يقول ممثل حركة الجهاد الإسلامي في طهران ناصر أبو شريف: “بدأت العلاقة قبل مرحلة انتصار الثورة الإسلامية، وكانت علاقة الفكرة إلى جانب الفكرة، فكر الثورة الإسلامية وفكر حركة الجهاد الإسلامي، وثورة الى جانب ثورة، وقد برز ذلك في كُتيّب الشهيد الدكتور الشقاقي (فتحي إبراهيم عبد العزيز الشقاقي هو مؤسس حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، واغتاله الموساد الصهيوني في مالطا سنة 1995م) بعنوان “الإمام الخميني: الحل الإسلامي والبديل”، كتبه قبل إنتصار الثورة ونُشر بعدها. واستمرت هذه العلاقة بدون إنحراف، والثورة الإسلامية لن تنحرف يوماً عن محور فلسطين، والعلاقة قائمة وتتوطّد يوماً بعد يوم”.
كما بدأت العلاقات بين حركة فتح والإيرانيين عام 1968 م عندما أجرت مجلة «فتح» حوارًا مع الإمام الخميني، دعا فيه إلى نصرة القضية الفلسطينية والتبرع لها ودعا أعضاء المقاومة الفلسطينية إلى مواصلة الكفاح المسلح ومواجهة العدو وبشرهم بالنصر واستشهد بآيات قرآنية عديدة، ودعا الشعب الإيراني لمقاطعة الكيان الصهيوني قائلاً: «واجب الشعب الفلسطيني المسلم هو واجب كل مسلم في أقاصي البلاد فالمسلمون يد واحدة على من سواهم فلا طائفية ولا عنصرية».
وفي عام 1977م، أرسل السيد عرفات رسالة تعزية إلى الإمام الخميني في إغتيال ابنه، ورد عليه الإمام برسالة قال فيها بإن القضية الفلسطينية هي شغله الشاغل منذ أن كان في إيران وحتى خلال إقامته في المنفى، وقال لعرفات: «أملنا في الله أن نشهد على أيديكم تطهير القدس والمسجد الأقصى من رجس الصهاينة».
وفي عام 1978 م، أرسل السيد عرفات رسالة تأييد إلى الإمام الخميني في منفاه بالنجف، وحمل الرسالة هاني فحص، وهو مثقف لبناني، اختاره عرفات ليكون مبعوثه الشخصي في هذه المهمة، تلتها رسالة أخرى بمناسبة اعتزام الكيان الصهيوني نقل عاصمته إلى القدس، رد عليها الإمام الخميني بإبداء الدعم والمساندة.
ويضيف الأكاديمي الفلسطيني، الدكتور مازن النجار، لموقع إضاءات: “عندما ذهب الإمام الخميني إلى منفاه في ضواحي باريس شكّل مجموعة تواصل مع المقاومة الفلسطينية شملت هاني فحص والفارسي والحسيني، وإستقبل هناك أبا اللطف فاروق القدومي، القيادي بفتح، وقد عمت الفرحة المخيمات الفلسطينية في ليلة انتصار الثورة الإيرانية، واحتفلوا بإطلاق النار فمنعهم سعد صايل، قائد أركان القوات الفلسطينية، خشية انفلات الأمر، فاتصل به السيد عرفات وقال له: «هذه أول مرة تصدر أمرًا خاطئًا، اتركهم يطلقون الرصاص».
رفع علم فلسطين عاليا فوق مبنى السفارة الصهيونية…. إعادة ثقة الأمة الإسلامية بنفسها
مع إنتصار الثورة الإسلامية في 1979م، وتدحرج تاج التسلّط، وإنكسار هيبة الطاغوت ومعه إرادة أمريكا التي كان لها في إيران موطئ قدم تمارس من خلاله عدوانها على الشعوب في منطقة الشرق الأوسط، إعتبر الإمام الخميني أن كمالية حركة الثورة لا تتحقق إلا بإزالة الكيان الصهيوني من الوجود، واستئصال هذه الغدة السرطانية الصهيونية من خارطة العالم، فتوجّه شطر المسجد الأقصى ورماه بوعده الجبار، مؤكّداً له أن القدس سيتحرر ولو بعد حين.
أخذ إهتمام الإمام الخميني بالقضية الفلسطينية كل الأبعاد، واعتبرها قضية إسلامية وقومية ووطنية، محذرا المسلمين من ضياعها وسط المصالح السياسية والتكتيكية للدول والأمصار، حيث رفض وبشدة كل أشكال التطبيع التي تفرض نوعاً من المهادنة والمسالمة مع الكيان الصهيوني على حساب حقوق الأمة وحقوق الشعب الفلسطيني؛ وذلك تحت ذريعة حماية أو تحقيق المصالح الوطنية.
تتميز رؤية الإمام الخميني للقضية الفلسطينية بعدة خصائص، حيث يرى الإمام أن الصراع مع الكيان الصهيوني صراع وجودي، وليس نزاعاً سياسياً أو حدودياً، يدخل في إطار المساومات الرخيصة. كما أنه صراع عقدي ديني، بين الإسلام والصهيوينة، فالإمام أدخل البعدين الإسلامي والعقائدي إلى عمق الصراع مع العدو الصهيوني، ليوسع بذلك معسكر المواجهين للصهيونية، ليشمل أكثر من مليار مسلم يؤمنون بمقتضى عقيدتهم بوجوب مواجهة الظلم والاحتلال، ونصرة المظلومين، ونجدة المسلمين المعتدى على أرضهم ومقدَّساتهم.
كرّست الدولة الإيرانية هذا المفهوم، فما إن استلم قياديو الثورة زمام الأمور، حتى تجسدت أولى خططهم والمتمثلة في غلق السفارة الصهيونية، واستبدالها بسفارة دولة فلسطين. وخلال إقتحام الإيرانيين للسفارة الصهيونية بطهران، فُقد اثنا عشر شخصًا، ماتوا صعقًا بالكهرباء على أسوار السفارة شديدة التحصين، ليسلموا مقاليدها إلى عرفات.
كما وُجهت دعوة للقائد الشهيد ياسر عرفات للقيام بزيارة رسمية إلى طهران، حيث سافر ضمن وفد من مرافقيه إلى طهران لإعلان تأييد الثورة، وظل منذ الليلة الأولى منتظرًا في دمشق بانتظار فتح المطار الإيراني حتى أتيح له السفر على متن طائرة سورية ليكون أول زعيم عربي يزور طهران بعد الثورة.
ولأول مرة في تاريخ حركات التحرير في العالم، تقوم الطائرات الإيرانية المقاتلة بمرافقة طائرة عرفات عند دخولها الأجواء الإيرانية، ومعاملته معاملة الرؤساء الكبار وليس كرئيس منظمة فحسب، وتم إعداد إستقبال رسمي وشعبي كبير لعرفات الرئيس الأول في العالم الذي قابل الإمام الخميني بُعيد انتصار الثورة. كما سُلمت له مفاتيح السفارة الصهيونية، وتم تحويلها إلى سفارة فلسطينية، وعُيّن هاني الحسن عضو اللجنة المركزية لحركة فتح كأول سفير فلسطيني في عاصمة الثورة الإيرانية، ومنذ تلك اللحظة قدّمت الثورة الإسلامية كلّ دعم للفلسطينيين وثورتهم، حتى أن الرئيس عرفات كان يفاخر ويردّد في تصريحاته أنّ جبهتي تمتدّ من خراسان في إيران إلى صور في جنوب لبنان، قال في طهران: ” إن الطريق الى بيت المقدس سيكون عبر طهران ”
شارك الراحل عرفات، رحمه الله، في 19 فبراير 1979، في مراسم غلق السفارة الصهيونية، ورفع اسم “سفارة فلسطين” على مبنى السفارة.
وفي يوم إفتتاح السفارة الفلسطينية، أصدرت وزارة الخارجية في الحكومة الإيرانية المؤقتة، بياناً، قالت فيه إن إيران تقطع جميع علاقاتها مع الكيان الصهيوني الغاشم. وتم تغيير إسم الشارع الذي تقع فيه السفارة من “كاخ” إلى “فلسطين”.
وبهذه المناسبة، إحتفل الإيرانيون في الشوارع الإيرانية، حيث إنطلقوا في مسيرات من أمام المقر السابق للسفارة الأميركية في طهران وصولاً إلى ساحة فلسطين، التي تقع فيها السفارة الفلسطينية، ورفعوا شعارات مناهضة لأميركا والكيان الصهيوني، وداعمة للشعب الفلسطيني. وهذه الاحتفالات، التي عمت مدناً إيرانية، هي تأكيد قوي لأهمية القضية الفلسطينية ومكانتها بالنسبة إلى الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
كما إستقبل الإيرانيون السيد عرفات في طهران إستقبال الفاتحين، وفي مدينة مشهد، يذكر موقع إضاءات، استقبلت الجماهير أول وفد عسكري فلسطيني من حركة فتح وحملوهم على الأعناق، وتخاطفوا كوفياتهم الفلسطينية ومزقوها بينهم وكأنهم يتبركون بها، وحينها كان من يحمل بطاقة منظمة التحرير الفلسطينية تُفتح أمامه الحواجز الأمنية والأبواب المغلقة والقلوب أيضًا كما يذكر فهمي هويدي في مشاهداته التي أوردها كتابه «إيران من الداخل».
ويروي أيضًا أن المواطنين العاديين حينها كانوا إذا رأوا زوارًا من العرب هتفوا «ثورة ثورة حتى النصر» بلغة عربية مكسرة، ولوحوا لهم بعلامة النصر التي اشتهر بها السيد عرفات، ولما وصل هاني الحسن، مستشار رئيس منظمة التحرير، ليكون أول سفير لفلسطين في طهران، استضافوه في قصر عباس هويدا الفخم والذي صار لاحقًا مقر رئيس الجمهورية.
زار السيد عرفات مدينة الأهواز وافتتح مكتباً لحركة فتح فيها، وقدّم الإمام الخميني له هدايا ثمينة، تمثلت في جميع الوثائق السرية التي إستولى عليها الثوار الإيرانيون من السفارة الصهيونية، والتي لا تخلو بالطبع من قوائم الفدائيين الفلسطينيين الذين كان ينوي الموساد تصفيتهم. كان الفلسطينيون سُعداء، منشرحة صدورهم بعد فوز الثورة الإسلامية بعد حكم ملكي قويٍّ صعب المراس أرهقهم بجهاز مخابراته “السافاك” الذي تحالف مع جهاز “الشاباك” الصهيوني في ملاحقتهم والتضييق عليهم، حيث تقارب الجهازان في فعلهما كما تشابها في اسميهما.
ثمن الراحل ياسر عرفات هذه الجهود، وإمتدح مفجر الثورة قائلا: (لقد تم إدراج الرابط لمقطع مسجل يوثق زيارة القائد الفلسطيني ياسر عرفات “أبو عمار” للجمهورية الإسلامية بعد انتصار الثورة الإسلامية يظهر فيه وهو يمدح الإمام الخميني ويتباهى بانتصار الثورة الإسلامية).
“هل يصدق أحد أن الثورة الفلسطينية موجودة في إيران….هل يصدق أحد هذا الكلام… أن الثورة الفلسطينية موجودة في إيران…هل يُصدق هذا…الآن الجميع يصدق لأنه هناك عصر جديد…إيران جديدة…في ذاك اليوم، قال بيغن لقد بدأ عصر الظلمات بالنسبة للكيان الصهيوني، وبعده جاء موشه ديان وقال لقد بدأ الزلزال، وهذا الزلزال سيصل إلى الكيان الصهيوني ..وأنا أقول له نعم …لقد بدأ الزلزال وسيصل إلى كل العملاء في المنطقة…ثم سيصل هذا الزلزال إلى كل المستعمرين في المنطقة…لقد ظهر النور وبدأ النور هنا نور في هذه المنطقة…الذين هم يسمونه في منطقتهم ظلام…ولكنه نور عندنا.. وسيعم المنطقة برمتها شاءوا أم أبوا..أرادوا أم لم يريدوا ..هي إرادة التاريخ..إرادة القدر…إرادة الله…إرادة الشعب الإيراني وإرادة الشعب اللبناني في الجنوب الذي ينظر وهو يتلقى القنابل من الطائرات والمدفعية الصهيونية وبالأمس يهددني ويهدد الشعب اللبناني ويهدد الثورة الفلسطينية ويهدد الشعب اللبنانب بيغن ووايزمنت..لقد هددنا ونحن نقول له الآن لقد بدأ عهد جديد للشعب اللبناني والثورة الفلسطينية من خلال هذه الثورة الإسلامية المباركة التي هي عبارة عن وهج وضياء وشعلة ستعم المنطقة كلها ………”
قال الإمام الخامنئي بهذه المناسبة في 01-10-2011: ” في الأسابيع الأولى التي تلت إنتصار الثورة الإسلاميّة، تمّ إقفال سفارة الحكومة الصهيونية الزائفة، واستُبدلت رسميّاً بممثليّة جبهة التحرير الفلسطينيّة. أعلن الإمام الخميني أنّ تحرير فلسطين وقلع الغدّة الصهيونيّة السرطانيّة من أهداف هذه الثورة. انطلقت أمواج هذه الثورة الهدّارة، واجتاحت في ذلك اليوم كلّ العالم؛ وأينما حطّت، حملت معها نداء “يجب أن تتحرّر فلسطين”.
وأضاف في 4/6/2013: “تتمثل مبادئ الإمام الخميني في السياسة الخارجيّة في الوقوف بوجه سياسات التدخّل والهيمنة، والأخوّة مع الشعوب المسلمة، والتواصل مع كلّ البلدان بنفس المستوى، عدا الدّول التي تشهر سيفها بوجه الشعب الإيراني وتعاديه، بالإضافة إلى مكافحة الصهيونيّة، والنّضال من أجل تحرير فلسطين، وإغاثة المظلومين حول العالم والثبات بوجه الظالمين”.
ومن جهته، قال السفير الفلسطيني في بيروت، أشرف دبور: “إن إيران حرّرت أول قطعة أرض فلسطينية برفعها أول علم لفلسطين في طهران، فكانت الأسيرة الفلسطينية المحررة فاطمة البرتاوي وأحد شبّان فتح هما من تولّى، مع الرئيس الراحل عرفات، رفع علم فلسطين يومها”. وتم حينها تحويل سفارة الاحتلال الصهيوني في طهران، إلى سفارة فلسطين في إيران الثورة.
يوم القدس العالمي
وفي ظل التأكيد المستمر للموقف الإيراني على عدالة القضية الفلسطينية منذ نجاح الثورة الإسلامية عام 1979م، والإشارة إليها بأنها قضية المسلمين الأولى، واعتبار أنّه من الواجب الديني تقديم الدعم للمستضعفين وتحرير فلسطين، خصص الإمام لهذه القضية يوما مهما سيظل في الذاكرة الإسلامية إلى غاية تحرير القدس من براثين الصهاينة، أسماه “يوم القدس العالمي”.
لم تأت فكرة هذا اليوم من باب التضامن مع الشعب الفلسطيني وحسب، وإنما انطلاقا من عقيدة راسخة، آمن بها منظر الثورة وقائدها، وهي أن دولة الاحتلال في فلسطين تمثل رأس حربة بيد الدول الغربية، وأن القدس، مدينة الأنبياء، لا يصح بحال من الأحوال أن تظل تحت سيطرة الحركة الصهيونية، وأن الشعب الفلسطيني المظلوم، الذي تكالبت عليه قوى الشر، لا يصح أن يظل مضطهدا محروما، وأن على الشعوب الإسلامية أن تقف إلى جانبه، وهذا هو ما فعلته إيران الإسلامية.
“إنَّ يوم القدس يوم عالمي، لا يختصّ بالقدس بل هو يوم مواجهة المستضعفين للمستكبرين إنه يوم مواجهة الشعوب، التي رزحت طويلاً تحت نيران الظلم الأميركي وغير الأميركي للقوى العظمى، يوم يجب أن يستعد فيه المستضعفون لمواجهة المستكبرين ولتمريغ أنوفهم في الوحل”.
بهذه الكلمات وبعد انتصار الثورة الإسلامية في 11 شباط عام 1979 م أطلق الإمام الخميني يوم القدس العالميّ، ليكون لأوّل مرّة في إيران في السابع من آب عام 1979 في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان المبارك.
يُعد يوم القدس العالمي تـراثا مهيبا يجمع بين ثناياه قدسية الزمان، شهر رمضان المبارك، وقدسية الوقت، الجمعة الأخيرة من هذا الشهر الفضيل، وقدسية المـكان فـي القـدس القبلـة الأولى والمدينـة المقدسـة الثالثـة للمسـلمين وموطن المعـراج السـماوي لرسـول اللـه صلـى اللـه عليـه وسـلم، إلـى جانـب قدسـية المناسبة والمتمثلة في إحياء قضية الإسلام الأولى، تحريـر القـدس، حيث يحتفل الملايين من المسلمين سنويا في مختلف أرجاء المعمورة بهذا اليوم الذي يُوافق الجمعة الأخيرة من شهر رمضان، عن طريق إقامة المظاهرات الشعبية المناهضة للكيان الصهيوني والمعارضة لإحتلال القدس الشريف، وتهجير الجزء الأكبر من الشعب الفلسطيني، وإزالة نظامه السياسي ووحدته الجغرافية، فتعلو هتافات الاستنكار والشجب للصهيونية و لحرب التهويد والاستئصال على أرض فلسطين أرض الرسالات ومهد الأنبياء.
يُعتبر هذا الاحتفال أكبر حدث عالمي، أسس لمشروع نهضوي، وتعبوي شعبي، أحيى الوظيفة السياسية للإسلام المنطلقة من دور تاريخي أدته الأمة الإسلامية في وجه الطواغيت الذين كانوا يحكمون العالم. ففي هذا اليوم، يجتمع الشرفاء لتجديد المعنى الروحي والحضاري والاستراتيجي لهذه الأرض المقدسة وللتنديد ضد وحشية وفداحة الجرائم الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني الأعزل والمطالبة بحقوقهم المشروعة وبإلغاء مشروع حذف فلسطين من خارطة الجغرافيا العالمية، وعلى هذا الهدي، وإيمانا بعبارة السيد الخميني الرنانة: “يوم القدس …. يوم حياة الإسلام”، سار الملايين من الإيرانيين، وغيرهم من المسلمين في المجتمعات الإسلامية وخارجها، وانضم إلى الركب جمع غفير من غير المسلمين الرافضين للظلم والاستبداد، والمناهضين للصهيونية، حيث ينظمون سنويا مظاهرات في الدول الغربية، بما في ذلك أمريكا الراعية للصهيونية، كما لا يتخلف اليهود الأرثوذكس المعادون لمجازر الاحتلال الصهيوني المتواصلة ضد الفلسطينيين عن هذا الحدث، ما يثبت أن هذه الدعوة المباركة آتت اُكلها في استنهاض الهمم.
كما رفض السيد الخميني جميع أشكال مفاوضات السلام مع الكيان الصهيوني، معتبرا إياها غير مشروعة دينياً: “إن إقامة علاقات مع الكيان الصهيوني أو مع وكلائها، سواء كانت تجارية أو سياسية، أمر ممنوع ومخالف للإسلام”.
وتاريخيا، ارتبط اسم الإمام الخميني بالقضية الفلسطينية حتى قبيل اندلاع الثورة الإسلامية الإيرانية من خلال إصداره أول فتوى عام 1968، التي حثّ فيها على أهمية تقديم الدعم المالي والإسناد للثورة الفلسطينية، وضمان استمرار جذوة المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني، انطلاقاً من قاعدة أساسية هي أن فلسطين قضية محور الصراع، وهي في قلب إيران الثورة، وستبقى ثابتة راسخة بعيداً عن أيّ حسابات سياسية أو طائفية مذهبية أو عقائدية أو أيديولوجية، وأن تحريرها واجب لا يجوز التخلي عنه.
طلب الإمام الخميني أن يُدفع للمجاهدين من الزكاة والخمس وسائر الصدقات بغض النظر عن هوية هؤلاء المقاومين وانتماءاتهم المذهبية والطائفية، فالمهم أن تصرف تحت هذا العنوان، ولذا أجاز إعطاءها للمنظمات الفلسطينية والفصائل المشاركة في الحروب آنذاك. واعتبر أن ديمومة انتفاضة الشعب الفلسطيني وبقاءها واستمرارها أساس زوال الكيان الصهيوني الغاشم، وكبح المطامع الصهيونية، وأي تراجع على هذا الصعيد أو العودة إلى التسويات المذلة ستكون نتيجتها التقهقر والعودة إلى ما كانت عليه القضية الفلسطينية والفلسطينيون من ذلٍ وهوان.
قال الإمام في أيام الانتفاضة الأولى: « لقد اتحدوا جميعاً من أجل منع الشعب الفلسطيني من مواصلة السير على نفس الطريق الذي سلكه الآن «في إشارة إلى الانتفاضة» وذلك عن طريق التظاهر بالحرص على فلسطين، والتأسف على ما يتعرض له الشعب الفلسطيني، ولكن ليعلم الشعب الفلسطيني بأنه إذا ما تراجع خطوة واحدة عما هو عليه الآن فإنه سوف يعود ثانية إلى حالته الأولى، إن الشعب الفلسطيني يوشك أن يسحق الصهاينة، وأتمنى أن يتم ذلك.(وكأن الإمام يتحدث الآن وفي هذه المرحلة) وإذا تمسكوا بهذا المفهوم الإسلامي فعليهم عدم الإصغاء إلى الذين يتظاهرون بطلب الخير لهم أي أولئك الذين يتقنون المخادعة”.
ومنه، دأب الإمام الخميني، طاب ثراه، على تخليد قضية القدس الشريف بهدف غرس نوع من الوعي الإسلامي في وجدان كل مسلم وكيانه المعنوي والروحي والرسالي، واستنهاض الهمم للقيام بالدفاع الشرعي ضد العصابات الصهيونية المتحالفة مع قوى الكفر والاستكبار العالمي لإذلال الأمة وإركاعها. كما لم يقتصر نهجه على الشعارات كما يروج له بعض المغرضين، فبصمة إيران، تحت مرجعيتها وقيادتها الحكيمة، كانت ولا زالت واضحة.
قدمت الجمهورية الإسلامية الإيرانية الغالي والنفيس للشعب الفلسطيني من مساعدات مالية ولوجيستية ومعلوماتية وتقنية ولا تزال، مما جعلها حاضرة وبقوة في المشهد الفلسطيني بكل تفاصيله. وحتى بعد وفاة الإمام الخميني، سار على هذا النهج خلفه الإمام الخامنئي، متمسكا بموقف سلفه المتمثل في الرفض المطلق لوجود الكيان الغاصب وضرورة مقارعة هذا الظلم، والعمل على تعبئة الشعوب الإسلامية تربوياً وثقافياً وسياسياً وجهادياً في مواجهة الصهيونية، وإفهامهم أن الصراع لا يدور حول فلسطين فقط، بل حول أصل الإسلام ومستقبل الشعوب الإسلامية في المنطقة.
يُجاهر الإمام الخامنئي أيضا بضرورة تعبئة الشعوب وإشراك النخب والعلماء في تعبئة الشعوب، كما يدعم المجاهدين والمقاومين، وكل الحركات التحررية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وعلى جميع المستويات، خاصة في الوقت الراهن، حيث استفحل التهويد والاستيطان والظلم بشكل غير مسبوق، حيث قال:
“لا تزال قضية فلسطين أهم مسألة مشتركة بين الأمة الإسلامية وأكثرها تدفّقاً بالحياة. لقد خطط النظام الرأسمالي الظالم السفّاك أن يحرم شعباً من مغناه، من موطن أبائه وأجداده، ليقيم مكانه كياناً إرهابياً وأناساً غرباء من شذّاذ الأفاق.”
“إنّ محورَ هذه الوحدة يجب أن يكون الجهادُ الداخلي وعدمُ الثقة بالأعداء. والسياسات الفلسطينيّة ينبغي ألا تعتمد على العدو الأساس للفلسطينيين أي أمريكا والإنجليز والصهاينة الخبثاء. الفلسطينيون، سواء في غزة أم في القدس أم في الضفة الغربية وسواء كانوا في أراضي ألف وتسعمائة وثمانية وأربعين أو في المخيّمات، يشكلون جميعا جسداً واحداً، وينبغي أن يتّجهوا إلى إستراتيجية التلاحم.”
وعن دعم المسلمين بغض النظر عن مشاربهم وتوجهاتهم الدينية يقول (03-02-2012): ” تعتقد الثورة الإسلامية أن مستوى الواجب الشرعي في مساعدة المجاهدين من أهل السنّة يتساوى مع مستوى الواجب الشرعي في مساعدة المجاهدين الشيعة”.
الإمام الخامنئي يقود المسيرة، والشهيد قاسم سليماني التجسيد الحي للثورة الإسلامية
يصر اليوم الإمام الخامنئي على احتضان القضية الفلسطينية والمقاومة، عبر سياسة خارجية راسخة، فلا تزال فلسطين حاضرة وتحتل نصيباً ومساحة كبيرين في العقل والوجدان الإيراني، وآخر تجلي لذلك هي جهود الفريق الشهيد قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في حرس الثورة الإيراني الذي أُغتيل رفقة مرافقه أبو مهدي المهندس، نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي، بضربة جوية أميركية قرب مطار بغداد في 3 كانون الثاني/يناير 2020، مما جعله رحمه الله “شهيد القدس” كما وصفه إسماعيل هنية، وحقا لهو وصف يناسب الموصوف.
والشهيد الحي ما هو إلا تجسيد لمنهج الثورة الإسلامية التي سعت إلى تأسيس ظاهرة المقاومة العالمية ونصرة المظلوم بغض النظر عن المعتقد والمشرب، حيث ضربت الجمهورية أبلغ الأمثلة في الوحدة والإخاء والتآزر، مزيلة بذلك خطوط التقسيم والتشرذم التي حولت عالمنا الإسلامي إلى أشلاء يسهل افتراسها، فلم تفرق بين الشيعة والسنة ونحو ذلك من الطوائف الإسلامية، ولم تنظر لقضاياهم بمنظور مذهبي قط، معتبرة كرامة الإنسان وإقامة العدل مبدأ وُجب التشبث به.
ومن هذه الرؤية، انطلق الشهيد سليماني في تعاطيه مع الأحداث، فحيث ما كانت مظلومية وجب الوقوف مع المظلوم ونصرة المستضعفين، وهل هناك مظلومية أبشع من مظلومية الشعب الفلسطيني.
فالشهيد سليماني كان جنرالا فلسطيني الهويةِ، إيراني الجنسية، حيث أولى أهمية بالغة للقضية الفلسطينية، معتبرا إياها قضية الإسلام الأولى، فنادى المسلمين بوجوب توحيد الصفوف والموقف في مواجهة الكيان الصهيوني الغاصب لهذه الأراضي المقدسة. لقد كان الشهيد ولسنواتٍ طويلةٍ واحداً من الفلسطينيين، وجزءاً من نسيج شعبهم، وطرفاً أصيلاً من مقاومتهم، وجندياً متواضعاً في صفوفهم، ومقاتلاً بسيطاً على جبهتهم، ومنسقاً صادقاً بين أجنحتهم، وساعياً بالوحدة بين فصائلهم، وخادماً لصغيرهم قبل كبيرهم، وناصحاً لتنظيماتهم ومستشاراً لقيادتهم، لا يتأخر إذا طلبوه، ولا يغلق بابه في وجوههم إذا قصدوه، ولا يمنع عنهم مساعدةً إذا سألوه.
لقد عُرف عنه تزويد المقاومة الإسلامية بفلسطين بمختلف توجهاتها بالخبرات العسكرية والسلاح والتدريب حتى على مستوى التصنيع العسكري الذي طور من قدراتها، ما جعله رحمه الله شهيد القدس كما وصفه إسماعيل هنية وحقا إنه وصف يناسب الموصوف. وبجانب هنية، يجمع قادة المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة من السنوار والجعبرى ومحمد الضيف وبهاء أبو العطا وغيرهم من القادة في الشقين العسكري والسياسي على الدور البارز للشهيد سليماني في دعم القضية الفلسطينية، وما بذله من جهود لتوحيد الفلسطينيين خلف قضيتهم، ووضع حد لأي خلافات بينهم حتى لاينفذ العدو من خلالها.
لم يقتصر أثر الدعم الكبير الذي قدمه قاسم سليماني على الأجنحة العسكرية للفصائل الفلسطينية فحسب، بل تعدى ذلك، فعلى مدار سنوات المواجهة مع الإحتلال، ترسخت هذه الآثار في وعي المواطن الفلسطيني.
فضّل الشهيد أن يكون دعمه للمقاومة الفلسطينية بعيدا عن الأضواء وخلف الستار كما صرّح به الأمين العام لـ “حزب الله” اللبناني حسن نصر الله في “حوار العام” الذي أجرته معه قناة “الميادين”، كاشفا أن القائد السابق لفيلق القدس الإيراني هو من طور من قدرات الفلسطينيين في مجال تصنيع الصواريخ، وهو أيضا من أوصل صواريخ “كورنيت” إلى قطاع غزة بالتنسيق مع حزب الله والرئيس السوري بشار الأسد.
وكورنيت هو صاروخ موجه مضاد للدبابات، مصمم للإستخدام ضد دبابات القتال الرئيسية، تم تقديمه لأول مرة للخدمة مع الجيش الروسي في عام 1998م، وفي ديسمبر/كانون الأول من عام 2010م، أطلق الفلسطينيون، لأول مرة، الصاروخ على دبابة صهيونية من نوع “مركافا 3” كانت تشارك في دورية في محيط غزة.
يُؤكد محمد حميد، عضو المكتب السياسي لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، هذا الطرح، قائلا “أنه وفي وقت سابق، كان تصنيع المتفجرات والعبوات الناسفة يعتمد على وسائل بدائيةٍ، وكان ابتكار الصواريخ أقرب إلى المبادرات الفردية الشخصية، إعتمدت في بعض المحطات على خبراتٍ عسكريةٍ وعلميةٍ قديمة، ربما يكون قد جاوزها قطار الزمن، مضيفا أن المدربين من فيلق القدس، تحت إشراف القائد الشهيد قاسم سليماني، كانوا يجتهدون في إحضار المواد، ويتابعون مع المجاهدين الطريقة التي يعملون بها في فلسطين، ويحاولون محاكاة الظروف وتحسين الواقع الخاص بعمليات تطوير التجارب الصاروخية. ومن ثمّ عملوا على تحسين المواد المستخدمة في التصنيع، لتكون أكثر دقةً في التصويب والرمي، وأكبر قدرةً في الوصول إلى أهدافها.
كل ذلك كان سبباً في امتلاك المقاومة الفلسطينية لاحقاً لقدراتٍ صاروخية أكبر مدىً وأكثر فاعلية، وأصبحت بذلك جزءاً من الاستراتيجية الدفاعية للشعب الفلسطيني، الذي أصبح قادرا على ردع العدو الصهيوني الذي يستبيح التراب”.
كما يكشف السيد محمد حميد عن إشراف سليماني بشكل مباشر على عمليات نقل الأسلحة وتهريبها إلى قطاع غزة المحاصرة حصاراً مطبقاً، من خلال عمليةٍ معقدةٍ ومتعدّدة الأقطار، مضحيا بالغالي والنفيس من أجل نصرة إخوته المستضعفين، مما مكن المقاومة الإسلامية من أن تزخر بترسانة من الأسلحة المحلية والدولية. فقد عمل الشهيد على نقل تجربة الصواريخ الذكية، التي تكاد لا تخطئ أهدافها إلى المجاهدين في فلسطين، وأدخل بنفسه تقنية الطائرات المسيّرة في خدمة العمل الجهادي للمقاومة في فلسطين.
إبتكر الشهيد طُرقا جنونية لنقل الأسلحة والصواريخ، من خلال الإلتفاف من الخليج إلى البحر الأحمر، فالقرن الأفريقي، مروراً بإريتريا ثمّ السودان حيث المصانع المُخصّصة لتجميعها، قبل أن تُرسَل إلى المقاومة عبر شبه جزيرة سيناء.
كان هذا المسار الأول لرحلة الصواريخ قبل أن يُؤخذ القرار بأن تصنع غزة سلاحها بأنواعه بفضل الخبرة المكتسبة من الجمهورية الإسلامية الإيرانية. وفي هذا الصدد، قال أحد قادة المقاومة أنه «عندما كان الوضع صعباً في سيناء، في مراحل عدة، وكانت المقاومة بحاجة ماسة إلى السلاح، غامر الحاج بفكرة أن تعبر السفن قناة السويس وتلقي الأسلحة ببراميل بعد دراسة التيارات البحرية الواصلة إلى غزة»، مضيفاً أن «المقاومين كانوا يدخلون مسافة قصيرة في البحر ويلتقطون غالبيتها… التوفيق الإلهي عاملٌ أساسي في عمل الشهيد سليماني، لكن الجنون والإبداع يحضران دوماً».
مكنت هذه الصواريخ المقاومين في فلسطين من التصدي والرد على أي عدوانٍ صهيوني، وإلحاق ضرباتٍ قاسية بصفوفه. فلأول مرة في تاريخ المقاومة الفلسطينية، تم إطلاق صواريخ الكاتيوشا وصواريخ فجر الإيرانية وصواريخ جراد 122 ملم، وغيرها من الأسلحة النوعيّة مثل الكورنيت ومضادات الطيران أثناء العدوان على غزة في عام 2012م، حيث وصلت هذه الأسلحة لغزة رغم الحصار المطبق على القطاع، وبقيت الجمهورية الإسلامية تُمول المقاومين الفلسطينيين بالسلاح وتتبنى عوائل شهداءهم وجرحاهم من خلال مؤسسة الشهيد التي أنشأتها. بالإضافة إلى رعاية العوائل التي لجأت قوات الاحتلال إلى هدم منازلها.
وكلنا نتذكر يافطات “شكرا إيران” التي كُتبت بأربع لغات، وهي العربية والفارسية والانجليزية والعبرية، حيث ملأت ميادين قطاع غزة بعد إنتهاء حرب الأيام الثمانية وانتصار المقاومة الفلسطينية فيها على العدّو الصهيوني بفضل الأسلحة الإيرانية.
وفي هذا الصدد، يُوضح مسؤول مكتب حركة “حماس” في طهران خالد القدومي، أن الحاج قاسم لبى نداء الجهاد وجاء إلى دمشق وشاهد عن كثب في غرفة العمليات المشتركة بين كتائب القسام وحماس النهج الإستراتيجي، وكان له تأثير لا يُنكر في تقدم “حرب الفرقان” التي أطلق عليها الاحتلال عملية “الرصاص المصبوب” عام 2008م.
كان الشهيد يتنقل مرارا وتكرارا إلى قطاع غزة، رغم تهديده من قبل الولايات المتحدة والكيان الصهيوني المحتل. وفي هذا الصدد، قال زياد النخالة، الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي: “كان الحاج قاسم سليماني يحضر شخصيا في حروب غزة ويقضي ساعات الليل مع مقاتلي المقاومة ويقلق عليهم كلما اشتدت الهجمات، ويستيقظ معنا في فلسطين لصلاة الفجر ويصلي خلف إمامنا”.
ومن جهته، نقل شيرازي قول المرشد السيد الخامنئي عن الشهيد سليماني في 8 كانون الثاني/ يناير 2020 م قوله: “هذا الرجل دعم الفلسطينيين وفعل فعلاً جعل منطقة صغيرة مثل قطاع غزة تقف في وجه النظام الصهيوني مع كل جبروته وإدعاءاته… لقد اُحبطت خطة أميركا في العراق، في سوريا، في لبنان، بدعم هذا الشهيد العزيز وجهوده”.
يؤكد عضو المجلس السياسي لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين خالد البطش هذا الطرح أيضا، قائلا: “لقد أضاف سليماني أبعاداً مختلفة للمقاومة الفلسطينية، ووسّع من نطاق عملها، فكان يُؤمن لها كل ما تحتاجه حتى تشتد قوة. لقد كان الحاج قاسم روح المقاومة في فلسطين. كان بدعمه نبض المقاومة وخاصة فيما يتعلق بسرايا القدس وكتائب القسام وحركات المقاومة الأخرى سواء الحركات الإسلامية أو الوطنية، ولم يكن سليماني يُفرّق بين حركات المقاومة هذه في قطاع غزة….”.
وفي حوار له مع وكالة أنباء فارس بمناسبة الذكرى السنوية الثالثة لاستشهاد قادة النصر، وجّه خالد البطش التحية لروح الشهيد الحاج قاسم سليماني وللجمهورية الإسلامية الإيرانية قائلا: “نبدأ بتوجيه التحية لروح الشهيد القائد الحاج قاسم سليماني، هذا القائد الكبير والعظيم الذي لم يتوقف ولو للحظة عن دعم القضية الفلسطينية وإرسال المدد والإسناد للمقاومة على أرض فلسطين، وبالتحديد في غزة والضفة وشوارع الأرض المحتلة… بالتالي لم يتوقف الشهيد قاسم سليماني عن دعم هذه المقاومة بكل الإمكانات المتاحة، بما فيها كافة أنواع العتاد الذي خاضت به المقاومة معاركها عامي 2012 و 2014م، وفي صيحة الفجر وسيف القدس ووحدة الساحات، وحتى فيما يتعلق بالضفة الغربية، ودعمه اللامتناهي للمقاومة هناك”.
وبعيدا عن الدعم العسكري، لطالما إستجابت إيران بتنسيق مباشر من القائد سليماني لصرخات الفلسطينيين الذين حُرموا من رواتبهم جراء القصف والحرب على قطاع غزة، ففي سنة 2015م، كشف رئيس “مؤسسة الشهيد- فرع فلسطين” نافذ الأعرج، تسلم الهيئة مبلغ مليوني دولار من الجمهورية الإسلامية الإيرانية لتوزيعها على الآلاف من أسر الشهداء الفلسطينيين في قطاع غزة. وكانت وكالة الأنباء الصينية قد ذكرت في تقرير نشر في يونيو/حزيران 2019 م أن طهران وزعت أموالا، قُدرت بنحو 651 ألف دولار على أُسر فلسطينية في غزة قبل ذكرى يوم القدس.
ومصداقا للقول القرآني “شهد شاهد من أهلها”، إعترفت وزارة دفاع الكيان الصهيوني في بيان لها صدر بتاريخ الثاني والعشرين من ديسمبر/كانون الأول 2020م، بأن وزير الدفاع الصهيوني بيني غانتس أمر بتجميد نحو 4 ملايين دولار أرسلتها طهران، بتنسيق من الشهيد، من أجل دفع رواتب الفلسطينيين.
لم تغفل الجمهورية الإسلامية الشقين السياسي والدستوري، إذ تعد القضية الفلسطينية من أهمّ مرتكزات السياسة الخارجية الإيرانية، ويتأكد ذلك من اللقاءات والاجتماعات التي تعقد، حيث تكون القضية الفلسطينية في قلب النقاشات الثنائية أو المتعددة الأطراف باعتبارها قضية إيرانية بامتياز، منبثقة من موقف مبدئي رسخه قائد الثورة الإمام الخميني، ناهيك عن ضرورة إيصال مضلومية الشعب الفلسطيني في الحافل الدولية.
كما تُوظف الجمهورية الإسلامية موقعها في المنطقة للدفاع عن فلسطين في كل المحافل الدولية، ولفضح وجه “الكيان الصهيوني” وجرائمها بحق الشعب الفلسطيني، ولمطالبة المجتمع الدولي بمحاكمة قادتها وتقديمهم إلى المحاكم الدولية كمجرمي حرب.
ومن ناحية أخرى، تأسست لجنة حماية الثورة الإسلامية للشعب الفلسطيني عام 1989 م في رئاسة الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
ودستوريا، فقد تم سنّ قانـون دعم الثورة الإسلامية للشعب الفلسطيني والذي يتكون من ثماني مواد وملاحظة واحدة، وقد تم تقريره في الجلسة العلنية ليوم الأربعاء، 9 أيار 1989م في مجلس الشورى الإسلامي، يلزم المؤسسات والوزارات في الجمهورية الإسلامية الإيرانية بوجوب تقديم كل أشكال الدعم لثورة الشعب الفلسطيني. وتم أيضا سن قانون وجوب الدعم الشامل من قبل الحكومة الإيرانية للشعب الفلسطيني المظلوم، والمُقرّ من مجلس الشورى في الأول من كانون الثاني عام 2008م، إضافةً لإعلان يوم 19 كانون الثاني، يوم غزة رمزاً للمقاومة الفلسطينية. وبذلك، بات دعم الثورة الفلسطينية مكرساً بنصوص قانونية ودستورية في إيران.
ومن جانب آخر، سخرت الجمهورية الإسلامية الإيرانية ترسانتها الإعلامية خدمة للقضية الفلسطينية باعتبار الإعلام الحلقة الأساس في تشكيل الرأي العام والتوعية وإدارة الأزمات السياسية، إذ أضحى مشاركا رئيسيا في صنع الأحداث السياسية، وسلاحا يفوق كل أصناف الأسلحة التقليدية المعروفة في ميادين القتال، حيث باتت الحملات الإعلامية تسبق الحملات السياسية والعسكرية وتُمهد لها. وردا عن الحملات الإعلامية الغربية التضليلية التي تصور الصهيوني بالضحية، في حين ترمي الفلسطيني المهجر من أرضه والمجرد من تاريخه بأبشع التهم، تبنّت وسائل الإعلام الإيرانية المرئية والمسموعة والمقروءة بكلّ اللغات من الفارسية والعربية ، مرورا بالإنجليزية والفرنسية ووصولا إلى العبرية، إستراتيجية إعلامية واضحة، ترمي إلى الدفاع عن القضية الفلسطينية العادلة وكشف الوجه الصهيوني الزائف، ومن يشاهد قناة «العالم» الناطقة بالعربية أو قناة” Press T.V” الناطقة بالإنكليزية وغيرهما، يُخيل له أنهم قنوات فلسطينية لما تبثه من برامج داعمة للقضية، ساهمت في إيجاد مساحة صوت للفلسطينيين ومقاومتهم في الفضاء الإعلامي. كما موّلت الجمهورية عددا من مراكز الأبحاث والدراسات، والمؤسسات الإعلامية الفلسطينية.
تؤدي هذه الإمبراطورية الإعلامية مهمتها بنجاح بفضل مكاتبها المنتشرة في مختلف المدن الفلسطينية، ويعمل فيها مئات المراسلين والفنيّين ومنتجي الأخبار، حيث تعمل على كشف الوجه الحقيقي للكيان الصهيوني، وتعبئة الشعوب ودعم المجاهدين والمقاومين، وكل الحركات التحررية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً وعلى جميع المستويات، خاصة في الوقت الراهن، حيث استفحل التهويد والاستيطان والظلم بشكل غير مسبوق، وهو ما تعهد قائد الثورة الإمام الخميني رحمه الله على ترسيخه، حيث صاغ ثوابت الثورة في تعاطيها مع القضية الفلسطينية على “أن القضية الفلسطينية ستبقى قضية الأمة ما دام للكيان الصهيوني قائمة، وأن حل القضية الفلسطينية يكمن بحذفه من خارطة الشرق الأوسط، وإن ذلك لن يتحقق إلا عبر دعم الفلسطيني بالمال والسلاح باعتباره واجباً إسلامياً مُقدساً”.
كما تدفع الجمهورية مبالغ كبيرة دعما للإعلام المقاوم المنادي بالوحدة الإسلامية، والمتتبع للخطاب الإعلامي الإيراني، يرصد دعما مثاليا للقضية الفلسطينية لاستمرار جذوة المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني، والإلتحاق بركب الثورة المسلحة، بعيداً عن أيّ حسابات سياسية أو طائفية مذهبية أو عقائدية أو إيديولوجية، كما يرصد الجهود الحثيثة للقائمين على هذا المجال في ترسيخ مفهوم الوحدة الإسلامية بهدف غرس نوع من الوعي الإسلامي في وجدان كل مسلم وكيانه المعنوي والروحي والرسالي، واستنهاض الهمم لتوحيد الصف والدفاع الشرعي بقلب رجل واحد ضد العصابات الصهيونية المتحالفة مع قوى لاستكبار العالمي لإذلال الأمة وإركاعها، حيث أيقن القائمون على هذا المجال الحساس المرامي الخبيثة لأعداء الأمة للتفريق بين المسلمين وبث السموم والفتن، وتصدوا لذلك عن طريق الحث على رص الصف الإسلامي، وإفهام المسلمين أن السموم التفريقية التي يبثها أعداء الأمة وخدامهم من أبناء الأمة هدفها شل الهبّة الإسلامية نصرة للقضية الفلسطينية العادلة.
يبذل الإعلام الإيراني أيضا جهودا حثيثة للتحذير من التطبيع المخزي لبعض الدول العربية إنطلاقا من توقيع إتفاقية كامب ديفيد، وما تبعه من إتفاقيات، ووصولا إلى مبادرة السلام العربية والإتفاقيات الإبراهيمية التي تُعد فاجعة كبرى للمسلمين، وانتحارا للحكومات الإسلامية. تعد هذه المحاولات الخسيسة إعلانًا عربيًّا عن أن فلسطين أصبحت “إسرائيل”، ومحاولة بائسة ويائسة لترويض الشعب الفلسطيني للقبول بالأمر الواقع، لكن الشعب الفلسطيني ما زال متمسكًا بحقه في فلسطين، ويبدع في أشكال المقاومة وآخرها العملية المباركة لطوفان الأقصى، مستندًا بذلك لإيمانه المطلق بعدالة قضيته وحقه التاريخي في فلسطين، وحالة التضامن والتعاطف من الشعوب العربية والإسلامية، وكذلك موقف الجمهورية الإسلامية الإيرانية وغيرها من البلدان على رأسها الجزائر التي لم تدخر جهدًا في الدعم والتأييد للمقاومة والشعب الفلسطيني على كل المستويات وفي التصدي بكل قوة واقتدار للمشروع الصهيوني الذي يستهدف كل المنطقة، ويسعى إلى إنهاء القضية الفلسطينية بكل ما تعني الكلمة من معنى، فمشروع هذه الدول المقاومة هو تشكيل حلف القدس لإجتثاث الغدة السرطانية التي تلتهم أراضينا، حيث وجهت بوصلته نحو القدس وفلسطين، وهذا المشروع متباين كل التباين عن مشروع “حلف أورشليم” الصهيو أميركي الذي تبنته الدول العربية المطبعة…ووجهت بوصلته إلى كل الاتجاهات، ما عدا القدس وفلسطين!
بقلم: د. هناء سعادة