السفير الإيراني بالجزائر يقدم واجب العزاء وطهران تودع الشهيد إسماعيل هنية بحضور شعبي مهيب تجاوز كل خطط فرق تسد الإستعمارية

قامت سفارة الجمهورية الإسلامية الإيرانية بالجزائر، ممثلة بسعادة السفير، السيد محمدرضا بابائي، والمستشار الثقافي، السيد محمدرضا زائري، بمشاركة قيادات وممثلين الاحزاب والقوى السياسية الجزائرية والداعمين للقضية الفلسطينية في زيارة مكتب حركة حماس في الجزائر العاصمة لتقديم واجب العزاء في استشهاد القائد الكبير المجاهد اسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، والذي اغتيل برفقة حارسه وسيم أبو شعبان في عملية صهيونية غادرة وجبانة في العاصمة الإيرانية طهران فجر الأربعاء الماضي.

وقد أقدم العدو الصهيوني على تنفيذ عمليات اغتيالات مختلفة أكدت جميعها على حجم المأزق الذي وصل إليه هذا الكيان الغاشم وإخفاقاته في الحرب على غزة، فهو لا يستطيع وقف الحرب بقرار أحادي الجانب منه، ولا يستطيع الاستمرار بها، فقد وصل إلى حد النهايات، حيث شهد اقتصاده، كما أكّدت الكاتبة الصحفية عبير بسّام، حالة ركود رهيبة، وتراجعت عملته، وتم غلق أكثر من 44% من شركاته، وتنامت ظاهرة الهجرة العكسية لمستوطنيه المستعمرين. ولذلك لجأ إلى ارتكاب المزيد من المجازر وقتل المدنيين واغتيال القيادات والقادة العسكريين من أجل التأثير على معنويات المقاومين من جهة، ورفع معنويات جنوده من جهة أخرى، ولم يكن هذا ليحدث لولا حصوله على الضوء الأخضر من الشيطان الأكبر أمريكا، الشريك الأساسي للصهاينة في الإجرام والقتل.

وبالرجوع إلى الزيارة، قدّم الوفد الإيراني لممثل الحركة بالجزائر، الدكتور يوسف حمدان، خالص التعازي والمواساة للشعب الفلسطيني، وإلى كل أحرار العالم والأمة الاسلامية بهذا المصاب الجلل، مدينا بأشد العبارات جريمة العدوان الصهيوني الارهابي الجبانة التي استهدفت القائد الجسور المجاهد الشهيد إسماعيل هنية الذي سيظل عنوان ورمزا للصمود وللمقاومة الفلسطينية. وأكد وقوف الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى جانب الفلسطينيين وجميع فصائل محور المقاومة ضد آلة الاجرام الصهيونية الجبانة.

كما وشدّد سعادة السفير على أن فلسطين هي مصنع المناضلين والمقاومين والشجعان من الرجال والنساء الذين يدافعون عن حقهم في الحياة وعن أنفسهم وأرضهم وعن المقدسات الإسلامية، مشيراً إلى أن الشهيد هنية كان مثله مثل أي فلسطيني مشروع شهيد من أجل القضية الأسمى والمركزية لكل المسلمين والمناضلين الأحرار، وهي القضية الفلسطينية.

ليس بغريب على الجمهورية الإسلامية الإيرانية هذا التضامن، فهي التي قدمت الغالي والنفيس نصرة لهذا الشعب المظلوم على كافة الأصعدة العسكرية والسياسية والإعلامية والاقتصادية والشعبية بشهادة القادة الفلسطينيين أنفسهم، فقد احتلت هذه القضية المقدسة مقدمة اهتمامات الإمام الخميني منذ لحظة إطلاقه حملته الثورية في الستينات، فكانت مضلومية الشعب الفلسطيني الفكرة المحورية لكل خطاباته، ومن بعده خطابات المرشد الأعلى، آية الله سيد علي خامنئي، الذي اتبع نهجه الشريف، معتبرا القضية الفلسطينية معيار قياس التزام المرء بالحرية وبحقوق الإنسان. فقد أبدى السيد الخميني معارضة شرسة للشاه إثر تحويله الاقتصادَ الإيراني إلى سوق لاستيراد كميات كبيرة من السلع والبضائع القادمة من الكيان الصهيوني.

كرّست الدولة الإيرانية هذا المفهوم، فما إن استلم قياديو الثورة زمام الأمور، حتى تجسدت أولى خططهم، والمتمثلة في غلق السفارة الصهيونية واستبدالها بسفارة دولة فلسطين. وفي ذات السنة، أعلن السيد الخميني آخر جمعة من شهر رمضان “يوم القدس العالمي” كتضامن دولي مع الشعب الفلسطيني الأعزل، كما رفض السيد الخميني جميع أشكال مفاوضات السلام مع الكيان الصهيوني، معتبرا إياها غير مشروعة دينياً: “إن إقامة علاقات مع الكيان الصهيوني أو مع وكلائها، سواء كانت تجارية أو سياسية، أمر ممنوع ومخالف للإسلام”. وتاريخيا، ارتبط اسم الإمام الخميني بالقضية الفلسطينية حتى قبيل اندلاع الثورة الإسلامية الإيرانية من خلال إصداره أول فتوى عام 1968م، التي حثّ فيها على أهمية تقديم الدعم المالي والإسناد للثورة الفلسطينية، وضمان استمرار جذوة المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني، انطلاقاً من قاعدة أساسية هي أن فلسطين هي محور الصراع، وهي في قلب إيران الثورة، وستبقى ثابتة راسخة بعيداً عن أيّ حسابات سياسية أو طائفية مذهبية أو عقائدية أو أيديولوجية، وأن تحريرها واجب لا يجوز التخلي عنه. قدمت الجمهورية الإسلامية الإيرانية كغيرها من الدول المقاومة كالجزائر الكثير من المساعدات المالية واللوجيستية والمعلوماتية والتقنية والإعلامية ولا تزال، مما جعلها حاضرة وبقوة في المشهد الفلسطيني بكل تفاصيله، ومن منا لا يتذكر جهود الفريق الشهيد قاسم سليماني، قائد فيلق القدس في حرس الثورة الإيراني الذي اغتيل برفقة مرافقه أبو مهدي المهندس، نائب رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي، بضربة جوية أميركية إرهابية قرب مطار بغداد في 3 كانون الثاني/يناير 2020م، الجهود التي ثمنها قادة المقاومة الفلسطينية، مما جعله رحمه الله “شهيد القدس” كما وصفه الشهيد إسماعيل هنية، وحقا لهو وصف يناسب الموصوف. لم يكتفي الشهيد سليماني بالإشراف عن بعد، حيث كشف محمد حميد، عضو المكتب السياسي لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، إشراف سليماني بشكل مباشر على عمليات نقل الأسلحة وتهريبها إلى قطاع غزة المحاصر حصاراً مطبقاً، من خلال عمليةٍ معقدةٍ ومتعدّدة الأقطار، مضحيا بالغالي والنفيس من أجل نصرة إخوته المستضعفين، مما مكّن المقاومة الإسلامية من أن تزخر بترسانة من الأسلحة المحلية والدولية. فقد عمل الشهيد على نقل تجربة الصواريخ الذكية، وأدخل بنفسه تقنية الطائرات المسيّرة في خدمة العمل الجهادي للمقاومة في فلسطين، ومكّن الفلسطينيين من صنع السلاح الذي تدك به المقاومة الفلسطينية اليوم معاقل الصهاينة.

ومن جانبه، قدّم الشعب الإيراني صورة مشرفة عن الوفاء والمشاعر الصادقة من خلال التشييع المهيب الذي حضي به الشهيد، ولخّصت مقاطع مصوّرة حالة الحزن والوداع المؤلم والصدمة التي عاشها الإيرانيون بفاجعة فقدان ضيفهم، حيث لفّ الحزن شوارع طهران، كيف لا وهم الذين تربوا على حب فلسطين ومساندتها، ويدفعون ولليوم ثمن ذلك حصارا لم يزدهم إلا ثباتا وقوة، فلو أرادت الجمهورية أن تطبّع وتخون لأصبحت ‘إمبراطورية الشرق الأوسط’ كما كانت في السابق عندما كان الشاه المطبع حليف قوى الشر.

أقام المرشد الأعلى آية الله السيد علي خامنئي صلاة الجنازة على جثمان الشهيد إسماعيل هنية، صباح يوم الخميس، في جامعة طهران، وعقب إقامة الصلاة انطلق موكب التشييع يحمل جثمانه ومرافقه في شوارع طهران وسط حشود جماهيرية هائلة مثّلت مختلف شرائح المجتمع الإيراني، أطلقت شعار “الموت لإسرائيل”، وحملت لافتات جسدت كل عبارات الوفاء للشهيد البطل، فملأت هذه الحشود الشعبية جوانب الطرقات تنتظر مرور موكبه لكي تؤدي له تحية الوداع الأخير، يدفعها إيمانها بالقضية الفلسطينية المقدسة التي استشهد من أجلها أبناء وطنهم على غرار الشهيد الحي قاسم سليماني، وبالمثل العليا التي زرعها فيهم قادة الثورة الإسلامية. شكلت هذه الجموع المليونية أبهى صورة جسدت اللحمة والوحدة بين المسلمين بمختلف طوائفهم ومشاربهم، حيث شاهدنا كيف أمّ الصلاة أعظم قائد مسلم أممي، وهو يردد: “اللهم إنا لا نعلم منه إلا خيرًا، فاجعله عندك في أعلى عليين”، وكيف نعاه الشعب الإيراني الطيب بالدموع المنهمرة، إذ خرج إلى الشوارع بالملايين يبكي هذا القائد السني في ضربة موجعة للطائفيين الذين سخّروا كل إمكانياتهم لضرب وحدة المسلمين، هذه الفريضة المنسية، إذ ليس يخفَى على أُولي الألباب أن شريعتنا الإسلامية السمحاء أبحرت في الإنسانية، مسطرة أبلغ معاني الوحدة والتلاحم، فقد قدم الإسلام وبجعبته مفاهيم جديدة، تختلف كل الاختلاف مع الأفكار التي كانت سائدة آنذاك في المجتمعات الجاهلية، فعلى عكس النظام القبلي والعرقي، نادى الإسلام بضرورة الوحدة بين المسلمين، والاعتصام بحبل الله جميعا، ليكون المسلمون كيانًا وجسدًا واحدًا، إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، حيث رصّ الصفوف وجعل المسلمين كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضا، خالقا مفهوما جديدا للقومية، يتعدى القبلية والعرقية، ليشمل القومية الإسلامية أو الأمة الواحدة الإسلامية، ففي قوليه تعالى: { إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ۝} القرآن الكريم، سورة الأنبياء (92)، و{ وَإِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ ۝} القرآن الكريم، سورة المؤمنون (52)، وأيضا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ. وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّـهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا ۚ وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىٰ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا ۗ كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّـهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} القرآن الكريم، آل عمران (102-103)، وقوله أيضا: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ۝}، القرآن الكريم، الأنفال (46)، خاطب الله المسلمين بالأمة الواحدة التي تعيش في ظل ربوبيته تعالى والتسليم المطلق له، وحرص على حفظ كيانها، وإطفاء بوادر النزاع، مهيبا بالأفراد كافّة أن يتكاتفوا على إخراج الأمّة من ورطات الشّقاق والنزاع. ولقد وثّق النبي، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، هذا المفهوم في وثيقة مهمة، وهي كتاب كتبه بين المهاجرين والأنصار لدى هجرته إلى يثرب، جاء فيه: “هذا كتاب من محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس…. “. (سيرة ابن هشام “دار احياء التراث العربي” 2 / 115) .

كما حثّ النبي ﷺ في خطبة الوداع التي ألقاها في حجته اليتيمة، والتي تعد من أعظم الوثائق التاريخية التي أرست ركائز المجتمع الإسلامي، ونبراسا يضئ طريق المسلمين، على الوحدة ونبذ التفرقة، فقد قال: “أَيُّها النَّاس، اسمعوا قولي واعْقِلُوهُ، تَعْلَمُنَّ أَنَّ كل مسلم أخٌ للمسلمِ وأَنَّ المسلمين إخوةٌ، فَلاَ يَحِلُّ لأمرئ مَالُ أَخيهِ إلاّ عَنْ طِيبِ نفْسٍ منهُ، فلا تَظْلِمُنَّ أنفسكم اللّهمَّ هَلْ بَلّغْتُ؟ وسَتَلْقَوْنَ ربكم فلا تَرْجِعُنّ بَعْدِي كُفاراً يَضرِبُ بَعْضُكُمْ رقابَ بَعْض”.

وحث الأئمة الصالحون على الوحدة والتآزر بين المسلمين. فعلى سبيل المثال، يقول الإمام علي بن أبي طالب (عليه السلام): (فإن يد الله مع الجماعة وإياكم والفرقة). (المجلسي:289).

توضح هذه الأحاديث أن السنن الإلهية والقانون الإلهي الحاكم والفطرة الإنسانية جُبلت على الاتحاد والتكاتف والتآزر والتعاضد بين الشرائح والفئات. واليوم وللأسف، وقعت الأمة فيما حذّرها الله منه “ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم”، (القرآن الكريم سورة آل عمران، الآية 105)، حيث تفرقت الأمة الإسلامية إلى جماعات وأسراب، اتخذت من العداوة والشقاق شعارا، حيث تتجاذبها الأهواء، فلا عجب أن تراهم بين خصومة مذهبية، وحزبية فكرية، وتبعية غربية أو شرقية لا تراعي في ذلك المصلحة العامة، تعادي بعضها بعضا، فنزع الله البركة منها، فتفشت من جديد مظاهر الجاهلية في المجتمعات الإسلامية مما أدى إلى تبدد وحدة المسلمين وتلاشي قوتهم، ومن ينظر إلى أمة الإسلام يرى تخلفاً، ويبصر تمزقاً، ونزاعات دموية، آزرت شوكة أعداء الدين، الذين أضحت لهم الكلمة العليا، لا بفضل خصائص القوة في أنفسهم، بل لمخلفات الوهن والضعف الذي يرتع فيه المسلمون الذين يقودون حروبا بغير عدو، مما يجعل التفرقة تهديداً حقيقياً للعالم الإسلامي ولكل مجتمع من مجتمعاته، غير أن ما قام به الشعب الإيراني نسف جهود هؤلاء الطائفيين الذين تحركهم جهات معادية للإسلام، فضلا عن بعض ممن يطلق عليهم اسم “العلماء” الذين انتحَلوا الإصلاح فكذَبوا، واستخفُّوا عقولَ السُّذَّج فضلّوا وأضلّوا، يلجأون إلى تحريف كتاب الله و تفسيره على حسب أهوائهم لخلق النعرات الطائفية، وخدمة الأهواء الحزبية ومصالح الأجندات الغربية التي تخشى وحدة المسلمين، فهم يتوشحون بعباءة الدين الحنيف لتبرير الفرقة التي تؤدي، لا محالة، إلى سَفك الدماء، وقتل الأبرياء، وترويع الآمِنين، وهتْك الحُرُمات، وتدمير المُمتلكات، وتخريب المُكتسَبَات، وعدم المُبالاة بإزهاق الأنفُس المؤمنة والمعصُومة، ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾، القرآن الكريم، [النساء: 93].

وكما هو معلوم، يتخذ أعداء الوحدة الإسلامية أساليب متفرقة لتشتيت صفوف المسلمين، على رأسها التكفير وقد نهى القرآن الكريم والأحاديث والروايات الشريفة الكثيرة عن ذلك، فمثلا يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: ” المرء مع من أحب، ومن قال لا إله إلا الله دخل الجنة”. (الصراط المستقيم، علي بن يونس العاملي، ج1، ص 199)، ونذكر أيضا حديث أنس رضي الله عنه قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: ” ثلاثة من أصل الإيمان، الكفّ عمّن قال: لا إله إلّا الله لا نكفّره بذنب، ولا نُخرجه عن الإسلام بالعمل” (أخرجه أبو داوود)، وهذا حديث واضح كل الوضوح، يأمر المسلم بالكف عن أخيه المسلم مهما بلغ المخالفة، فلا يجوز تكفير أي شخص يُقرّ بالشهادتين مؤمناً متحقّقاً.

وهنا تبرز جهود الأخيار من المسلمين لصد موجات التكفير كالسيد جمال الدين الأسد آبادي المعروف بالأفغاني، سفير العقل والوحدة، والشيخ محمد عبده، والشيخ عبد المجيد سليم، رئيس لجنة الفتوى بالأزهر، وشيخ الأزهر محمود شلتوت، والسيد عبد الحسين شرف الدين العاملي، والعلامة السيد محمد واعظ زاده، وآية الله الشيخ محمد علي التسخيري، وحجة الإسلام السيد هادي خسروشاهي، رؤساء المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية بإيران، رحمهم الله جميعا، بالإضافة إلى الشهيد محمد سعيد رمضان البوطي، والمرحوم أحمد الوائلي، والإمام المغيب موسى الصدر وغيرهم. ولعلَّ كلمات الإمام الخمينيّ رحمه الله في هذا السياق توضح بما لا يقبل الشكَّ الموقف الحازم تجاه التفرقة المذهبيّة وذلك عندما قال: “لا يوجد في الإسلام أيُّ فرقٍ بين شيعيٍّ وسنّيٍّ أبداً، ولا ينبغي أن يوجد ذلك. عليكم التمسُّك بوحدة الكلمة، لقد أوصى أئمّتنا الأطهار بالحفاظ على وحدتنا، ومن سعى إلى ضرب هذه الوحدة فهو إمّا جاهل وإمّا مدخولُ الطويَّة”. (آراء علماء الشيعة حول حرمة الإساءة إلى المسلمين وتكفيرهم، ص:10). وفي تمكينٍ لهذا النهج الإسلاميِّ الحكيم، قال مرشد الثورة الإسلاميّة السيد علي الخامنئي: “كلُّ قولٍ أو فعلٍ يؤدّي إلى تأجيج نار الخلافات بين المسلمين، وكلُّ إساءةٍ لمقدّسات أيٍّ من الفِرَقِ الإسلاميّة، أو تكفير أحد المذاهب الإسلاميّة هو خدمةٌ لمعسكر الكفر والشرك، وخيانةٌ للإسلام، وحرامٌ شرعاً”. (آراء علماء الشيعة حول حرمة الإساءة إلى المسلمين وتكفيرهم، ص:24).

جسّد الشعب الإيراني هذه التعاليم السمحة، حيث هبّ إلى الشوارع رجالا ونساء وأطفالا لتشييع هذا القائد الفلسطيني السني وحناجرهم تهتف له في مشاهد تسكب لها العيون العبرات.. وكأنه مسؤول سياسي أو شخصية دينية إيرانية.. وقد شاهدنا عشرات الفيديوهات والصور التي توثق هذه اللحظات، وكيف بكى هذا الشعب العظيم بحرقة على هذا الفقد الجلل، ورويت قصص كثيرة لسيدات حوّلن بيوتهن لمقرات للتعزية وقراءة القرآن لروح الفقيد. روى الكثيرون كيف تجمهر الإيرانيون منذ الساعة الخامسة صباحا لحضور مراسم الصلاة التي أقيمت على الساعة الثامنة والنصف. ومن المشاهد التي تداولها رواد المواقع الاجتماعية فيديو لسيدة إيرانية تحمل بيدها طبقًا من الحلوى في أقراص صغيرة توزعها بين الناس، قالت بأنها قامت بتجهيزها بنفسها ليلاً، وأوضحت لوكالة تسنيم: “إنه على روح الشهيد… لقد قتلوه غدرًا”.

وشُوهدت سيدة أخرى تحمل بيدها طفلها الذي لا يتجاوز عمره ثلاثة أشهر، وعندما سئلت عن ذلك أجابت قائلةً: “مهما كان الأمر صعبًا، فهو لا يُقارن بما يعانيه أطفال غزة في خيام ممزقة وعلى الرمال الساخنة تحت أشعة الشمس أو أمطار الشتاء والقصف والجوع يلاحقهم. عندما أضع نفسي مكان أمهات غزة، أجد أنني لا شيء”.

ونقلت الوكالة مشهد رجل مُسن يمشي بصعوبة مستندًا على عصاه، وتظهر خطواته القصيرة مدى معاناته، حيث قال في حديث مع الوكالة بأنه لم يعد قادرًا على المشاركة في المسيرات منذ سنتين بسبب ألم في قدمه، وعندما سُئل عن سبب قدومه رغم صعوبة الحال؟، أجاب بعبارات تملؤها الحسرة: “كان ضيفًا في بيتنا. منذ أن سمعت بخبر استشهاده، قلت يجب أن أذهب بأي طريقة، وأردف قائلا: “أنا حزين لأنه كان ضيفنا، لكنني سعيد لأنه رحل شهيدًا.. والشهداء لا يموتون”. وشاهدنا أيضا صًور رجل مسن آخر ربط علم إيران حول رأسه، وعلّق عَلَم فلسطين على كتفه، ولفّ حول عنقه شالًا يحمل صورة الحاج قاسم، جاء من مدينة شهريار خارج العاصمة، وكان يستعد للسفر إلى كربلاء للمشاركة في أربعينية الإمام الحسين “عليه السلام”، حيث قال لوكالة تسنيم إنه أرجأ سفره ليشارك في التشييع.

والملفت للانتباه هو غرس روح المقاومة في نفوس ووجدان الأطفال الصغار في الجمهورية الإسلامية الإيرانية، فهم رضعوا الإباء والشموخ، مما جعلهم تجلٍّ جليٍّ لما صنعه قاداتنا الشهداء ولما قدموه لأنَّ ما كان لله ينمو، ولأنَّ غرس الأمهات لابدَّ أن ينتج حبا ووفاء.

ولأن تشييع القادة هو محطة مهمة للتأكيد على هذا النهج المقاوم، فقد وقف الشهيد هنية قبل شهرين ونصف بين المصلين يُشيع جثمان الشهيد الرئيس الإيراني السيد إبراهيم رئيسي ورفاقه، وقبل أربعة سنوات ونصف، شارك أيضًا في مراسم الصلاة على جثمان الشهيد قاسم سليماني، وقال حينها إنه جاء ليودع شهيد القدس، واليوم تكرّر نفس المشهد، بحضور عائلتي الشهيدين رئيسي وسليماني، فهذا هو محور المقاومة، شهيد يودع شهيد، ولذلك تحرص العوائل على اصطحاب أولادها لينهلوا من هذا الجو الروحاني المهيب، وبهذا، فقد كان للأطفال حضور خاص ومميز بالرغم من درجات الحرارة المرتفعة، وكانوا يرددون شعارات: “الموت لإسرائيل”، و”الموت لأمريكا” و”الموت لبريطانيا”، و”الشهيد هنية رحل، لكن المقاومة ستبقى”. وشاهدنا فيديو مؤثر لطفل صغير عمره 08 سنوات يتوعد بالانتقام حينما يكبر قائلا: “لقد قتلوا أطفالا صغارا بدم بارد، وسأنتقم لذلك بيدي هاتين”.

تسابق الأطفال أيضا نحو صندوق مكتوب عليه “دعماً لشعب غزة”، كما تفاعلوا مع أشعار المداح ميثم مطيعي في رثاء الشهيد هنية عندما قال:

يا شهيد يا شهيد، قَسَمًا لن نحيد

سال دمك من الوريد إلى الوريد

أعاد فينا ذكرى كربلاء من جديد

وعلى عاتقنا الثأر لك، يا شهيد

سنرد الصاع صاعين ببأسنا الشديد

ورددت ابنة شهيد وهي تمشي خلف النعش: “الشهيد كزجاجة عطر عندما تنكسر ينتشر عطرها في كل مكان… الآن عطر الشهيد هنية قد ملأ طهران، وكلمات الإمام الخميني مازالت حية إن دم الشهيد إذا سقط بيد الله فهو ينمو”.

كان هذا التشييع يوماً استثنائياً لا يشبه باقي الأيام، مما يبرز أن القضية الفلسطينية هي قضية دينية لا مذهبية وإنسانية لا مصلحية بالنسبة للإيرانيين. وبذلك، فإن هذا الشعب جدير بأن يحظى باحترام المسلمين خاصة، وبني آدم عامة، حيث تجاوز الإيرانيون بعقولهم النيرة كل خطط فرق تسد الاستعمارية التي انطلت على البعض الذين يزكون ويترحمون على هذا، ويكفرون ويقولون “مستراح منه” على ذاك، وأيضا ممن يروجون لأكاذيب من قبيل أن الإيرانيين يمقتون العرب وكل شيء يمت للعروبة بصلة، فقد أكدوا بنبلهم مقولة الشهيد هنية الذي قال: “إيران بقادتها وشعبها تقف في الخندق الأمامي لدعم الشعب الفلسطيني”.. فليبارك الله جهودهم ومساعي الخيريين من أمتنا، ويحقق المقاصد المأمولة، ولا عدمت الأمة صوتاً يدعو إلى الوحدة أو يساهم في التقريب وصد الفرقة والتشرذم بهدف محاربة عدونا الذي يعيث في الأرض فسادا، فذلك صوت الايمان. وبهذه الصور، يمكن القول بأن هذا القائد الرمز تجاوزت حياته آجالها، إذ حقق بفضل تآلف قلوب المؤمنين من بعده مثل ما حققه وهو يتحرك في جنبات الأرض وربما أكثر، فشهادته التي لطالما تمناها دبّت الحياة من جديد في أمتنا المتشرذمة، فرأينا صورا توثق الوحدة الإسلامية في إيران وغيرها من الدول الإسلامية، شقت أفئدة الصهاينة ومن يواليهم، وأثارت غضب قاداتهم الذين صُدموا حسرة على خيبة أملهم وفشل مكائدهم المقيتة، ولئن سجّل التاريخ لشيخ الحركة ومؤسسها الشيخ أحمد ياسين أنه جمع أهل فلسطين على مقاومة المحتل، وهو الذي زار إيران بعد الإفراج عنه عام 1998 م، أين التقى كلًّا من المرشد الأعلى للثورة آية الله خامنئي، والرئيس الإيراني في حينها محمد خاتمي، وأثنى على الدعم السياسي والمالي، وتكنولوجيا التصنيع العسكري، إضافة إلى التدريب العسكري للمجاهدين الفلسطينيين من قبل الإيرانيين، فقد سجّل التاريخ كذلك للشهيد القائد إسماعيل هنية أن فلسطين والعالم كله اجتمع مرة أخرى من مدينة قُم الإيرانية إلى طهران، فالدوحة القطرية، إلى إندونيسيا واليمن العزيز، يمن الحكمة والإيمان، وتركيا والعراق والجزائر وتونس وغيرهم، أين كانت الأرجاء ممتلئة بالهتاف لرجل مثّلهم، وجمعهم على نصرة القضية حيًّا وشهيدًا، ولقد أسرت قلوبنا أيضا مشاهد المسيرات المليونية التي نظمها اليمنيون الصامدون، إذ لا يمكن لنا بأي حال من الأحوال تجاهلها.. دامت الوحدة الإسلامية، ولا عزاء للحاقدين والطائفيين.

ونختم بشهادة حية معبرة من مناضل فلسطيني من قلب غزة العزة، اسمه السيد خالد جرادات، حيث قال: “لم يكن غريبا ولا مستبعدا بالنسبة لي حجم التشييع الجماهيري والرسمي للشهيد القائد إسماعيل هنية، والسبب هو أن هذا الشعب يخرج بمظاهرات حاشدة مرة واحدة في العام على الأقل في جل المدن الإيرانية منذ ٤٥ عاما ( يوم القدس العالمي ) نصرة لفلسطين، فكان وبناء على ما شاهدناه سابقا من حشود أن نرى حشودا غفيرة في تشييع شهيد فلسطيني، ولكن ما أثار مشاعري حقا هو تلك الحرقة في قلوب العجائز والشباب والصبايا على استهداف ضيفهم في دارهم وبيتهم، تلك الحرقة النابعة من قلوب تربت منذ عقود على حب فلسطين و مجاهدي فلسطين، حب تتم ترجمته بالدعم الذي يعرفون أنه يصل لفلسطين ومجاهديها، حب يعلمون أنهم يدفعون ثمنه – بكل رضى – حصارا منذ عقود.”

الدكتورة : هناء سعادة