يولد الإنسان صفحة بيضاء
يولد الإنسان صفحة بيضاء ضعيفا جدا، جسديا وعقليا، لا يعرف الكلام ولا يميّز ما يرد إلى سمعه من أصوات، ولا يعرف الأشياء المحيطة به، ولا يعرف أصله وفصله ولا الجغرافيا التّي ولد فيها ولا تاريخ مولده، وتولد مع الفطر التّي فطر عليها غريزة البكاء، وأصوات يلغو بها تخرج من حلقه لا تعبّر عن كلام، كما تولد معه غريزة التّثاؤب وتحريك أطرافه والنّوم عند حاجته إليه والاستيقاظ من تلقاء نفسه، وطرح فضلاته، وإذا وُلد سالما من أيّة إعاقة، كلّما مرّ على مولده يوم كان فيه يكبر سنّا فتنشأ فيه غريزة التّبسم، وإذا ما أمعنا التّدبر والتّدقيق في الغرائز التّي فطر عليها، نجد غريزة البكاء، والبكاء هو أول طريقة تعبيرية عن ألم ما، جسديا كان أو نفسيا، وهذه الغريزة وإن كانت غير محبوبة عند البشر، فإنّ البحث حولها صائب ومفيد جدّا في التّنشئة من مبدأ، إن كان الإنسان يريد ألاّ يبكي في حياته يوما، عليه تفادي الظروف التّي تؤدّي لإبكائه.
التّعلم من الفطرة
هذا الفرد الذّي يولد ضعيفا لا يعرف إلاّ الرّضاعة والبكاء، إن كتب الله له العيش، هو من سيكون مستقبلا فردا من أفراد المجتمع، بتوالي المراحل العمرية للإنسان في النّمو، يتعلّم فيها وفق أنساق ذاتية فطرية، كيفية الحبو ثمّ كيف يقف ثمّ كيف يمشي وبالتدرج العمري يتعلّم كيفيّة تناول الطّعام والشّراب من تلقاء نفسه، وحاجته إلى الحياة تجعله قابلا لتلقي التّربية من محيطه العائلي وخارج العائلة، ويكون أوّل ما يتعلّمه فيها هو لغة قومه، أمّا الأنساق التّعليمية-، تتولى عائلته ومحيطه القدر الكبير لبعثها فيه، ثمّ تأتي المدرسة لتتولّى تعليمه فهم الأشياء، بهدف استيعاب فهمها، ويظلّ هذا الفهم والاستيعاب لا يؤدي هدفه إن لم يترسّخ في ذهنه ويصير من سلوكياته، وآليات ترسيخ الفهم حتّى الاستيعاب عديدة أهمّها، الممارسة لاكتساب التّجربة، إدراك الأشياء عن طريق شواهد لم تحدث له وحدثت لغيره، فإن كانت التّربية والتّنشئة الأسرية والمحيط حميدة، تنشأ لدى الفرد سلوكيات قابلة للتّطور نضجا بما يفيده ويفيد غيره، وأهم ما تُنشأ فيه التّربية الصحيحة؛ حسن الإصغاء وقبول الحوار وتقبّل تحمل مسؤولية الخطأ عندما يرتكبه ويكسبه ذلك التّجرّد من النّزعة الفردية، ويكون في هذه الحالة قد انتقل من فهم الأشياء على حقيقتها واستيعاب فهمها إلى المرحلة الهامّة في حياته وهو الإدراك.
الإدراك محرك أساسي لبعث الوعي:
وإذا ما نظرنا في مفهوم الإدراك، ومن خلال الشّروحات العديدة التي جاءت في القواميس و منها:
ـــ مصدر أدرك، سنّ الإدراك: سنّ البلوغ، فقد الإدراك: الغيبوبة، عدم التّنبه للشّيء.
ــ بصيرة ورشد واستعمال القّوة التّي تعرف بها النّفس الأشياء وتميّزها
ــ مصدر أدرك، استطاع إدراك خبايا الأمور: فهمها وتمييزها ودلالاتها،
ويستوقف الشّرح الذّي جاء به الجرجاني في معجم التّعريفات، والذّي عرف الإدراك كما يلي:
“الإدراك: إحاطة الشّيء بكامله.
الإدراك: هو حصول الصّورة عند النّفس النّاطقة.
الإدراك: تمثيلُ حقيقة الشّيء وحده من غير حُكم عليه بنفي أو إثبات، ويسَمَّى تصوُّرا ومع الحكم بأحدهما يسمّى تصديقا” 1
ورغم تنوّع شرح مدلول كلمة الإدراك، فإن علم النّفس التّربوي قد اهتمّ اهتماما كبير بمفهوم الإدراك ونجد فيما توصّلت إليه نتائجهم شرحا دقيقا وشاملا ومختصرا له في معجم المصطلحات التّربوية والنّفسية و جاء فيه “ويقصد بالإدراك هنا الاهتمام والوعي الحسّي والفعلي بمدى استعمال الأعضاء للقيام بوظائفها، ومن ثم اختيار الوظائف الواجب القيام بها، والرّبط بين المعرفة والأداء.
والأفعال السّلوكية، هي: يحدّد، يميّز، يربط، يختار” 2
نستطيع أن نلمس من هذه التّعريفات للإدراك بأنه يعد المرحلة النّهائية لفهم الأشياء بكاملها واستيعاب فهمها بما يحيط بها، ففهم الأشياء دون استيعاب وإدراك لا يكفي لتحصين النّفس من الخطأ، فإذا ما سقنا المثال التالي على ذلك: معلوم أنّ ما يبدر للذهن عند سماع كلمة “مخدّرات” هو إضرارها بالصّحة، فإن تعلّم أيّ إنسان بنفسه أو ما تعلمه من عائلته أو المدرسة أو من محيطه، بأنّ المخدرات مضرّة بالصّحة، فإنّه فعلا عرف وعلم بأنّ المخدّرات مضّرة بالصّحة، لكنّه لا يكون قد أدرك أضرار المخدّرات كاملة، ومن ثمّة لا يدرك مخاطرها كاملة، وما يترتب عنها، فتعاطي المخدّرات لا يضرّ بالصّحة الجسدية فقط بل أضرارها تتعدّى حدودا لا تعد ولا تحصى، فهي تضرّ أيضا بالسّلامة العقلية وتخرّب وتعبث بسلوك الإنسان، وتضرّ باقتصاده وهو ما يترتّب عنه فقدان التّحكم في السّلوك والميولات، وقد يصير معها المدمن إنسانا انطوائيّا منبوذا وقد يفكّر في الانتحار، وقد يؤدي استعمال جرعات كبيرة منها إلى الوفاة فجأة، وقد يصير المدمن إنسانا عدوانيّا وقد يرتكب جريمة أو مجموعة جرائم قد تصل إلى إزهاق روح بشرية بغير سبب، وما لم يُحط إحاطة كاملة بما ينجرّ عن تعاطي المخدّرات يكون غير مدرك بمخاطر هذه الآفة كاملة. وإذا ما أحيط بجميع جوانب مضارها يكون قد أدرك هذه المخاطر وهذا الإدراك يكسبه وعيا مُحصنا.
ولما كان الادراك عند الإنسان هو كمال فهم واستيعاب الأشياء على حقيقتها، أصبح التّحكم بالوعي الحسّي والفعلي عند توظيف المعرفة والأداء يخضعون إلى التّمييز الجيّد، فيصير الإدراك المحرّك الأساسي لبناء الوعي عند الإنسان. ويبعث الوعي بالإحاطة بجميع الأشياء من نشأة وتوجيه الجوانب النّفسية الوجدانية وتقويم اتّجاهات السّلوك ويعتني بعمليات التّفكير بتوجيه العقل إلى المعرفاللتمحيص الأشياء المحيطة به قبل بموضوع تفكيره قبل اتّخاذ قرار، ويكسبه ذلك فهم واستيعاب وإدراك عميق لجميع الجوانب المحيطة بالأشياء التي يفكر فيها ، فينشأ كل ذلك القيم الأخلاقية المُحصِّنة في الفرد.
الوعي الفردي أساس بناء الوعي الجمعي:
وقد اهتم علماء الفلسفة وعلم النّفس والاجتماع بالوعي لارتباطه بأهمّ مركز قرار في البشر وهو العقل، الذي تصل إليه المنبّهات من جميع حواسّ الإنسان، وأفردوا له شروحا وتعريفات منها:
“الوعي كلمة تعبّر عن حالة عقلية يكون فيها العقل بحالة إدراك وتواصل مباشر مع محيطه الخارجي عن طريق منافذ الوعي التّي تتمثّل عادة بحواسّ الإنسان الخمس… كما يمثل الوعي عند العديد من علماء النّفس الحالة العقلية التّي يتميّز بها الإنسان بملكات المحاكمة المنطقية، الذاتيةـ الإحساس بالذات (subjectivité) الإدراك الذاتي (self-awareness ) والشعورية (sentence ) والحكمة أو العقلانية (sentence) والقدرة على الإدراك الحسي ( perception) للعقلاني بين الكيان الشخص والمحيط الطبيعي له”.
3 “الوعي الجمعي: هو الفهم أو الحس المشترك الذي تبلور من خلاله، وعبره جماعة معينة من الأفراد، أو مجتمعا من المجتمعات نظرته إلى الكون، إنه يشير إلى تمثلات وتصورات ومواقف، تتبناها الجماعة، بسبب الانتماء المشترك والتنشئة الاجتماعية المتواترة التي تفيد في نمذجة الوعي وتطبيع الفرد وتسيير اندماجه في ذات الجماعة… يدل الوعي الجماعي أو الجمعي على مختلف التصورات الذهنية الجماعية التي تعكس رؤى واتجاهات الأفراد الذين ينتمون إلى الجماعة نفسها، وهي تصورات تنشأ تلقائيا، وتتجذر عمليا عن طريق الانتماء والانتساب إلى الجماعة والمرور عبر قنوات التنشئوية” 4
ولما كان الإدراك عند الإنسان هو كمال فهم واستيعاب الأشياء على حقيقتها، يُنشأ فيه ذلك وعيا ذاتيا باعثا للقيم الأخلاقية العالية، وهذه القيم عندما تسود وتترسّخ في الفرد تصير من حياة الفرد المنتمي لمجتمعه، فيتوسّع ترسّخها في حياة الجماعة وتصير مشتركة بينهم فتتوحّد القيم والتّصورات والأهداف، وطالما أن الفرد هو جزء يتشكّل منه المجتمع تصير هذه القيم اللبنة التي يبنى عليها الوعي الجمعي للمجتمع سواء كان وعيا سياسيا أو إقتصاديا أو إجتماعيا، فيرتقي بذلك تفكير الفرد والجماعة إلى مستويات عالية من الدّقة، وإذا ما تظافرت جهود بناء المجتمع من نخب وإعلام وثقافة وخطاب سياسي، يُرتقى بالوعي الجمعي إلى تجانس، ويتمكّن بذلك المجتمع من تماسكه وتحصين نفسه من الأزمات المجتمعية التّي قد تعترض مسيرته، كما يتمكّن إن إعترت مسيرته أي أزمات من تجاوزها بحكمة وبصيرة بما يجعله محافظا على تماسكه.
بقلم : هاجر ميموني
المراجع:
1 ـ الجرجاني، تحقيق ودراسة محمد الصديق المنشاوي، معجم التعريفات، باب الألف مع الخاء والدال للعلامة، دار الفضيلة للنشر والتوزيع القاهرة مصر، ص 15/ط 2004.
2 ـ حسن شحاتة وزينب النجار مراجعة الدكتور حامد عمار، معجم المصطلحات التربوية والنفسية، ص32 الدار المصرية اللبنانية، ص 32/ط1 أكتوبر 2003.
3 ـ مصطفى حسبية، المعجم الفلسفي، دار أسامة للنشر والطبع، عمان الأردن، ط/01 2009، ص
4 ـ محمد سبيلا ـ نوح الهرمزي، موسوعة العلوم الأساسية في العلوم الإنسانية والفلسفة المركز العلمي العربي للأبحاث والراسلا الإنسانية، ط1/2017.