“الثائرون” بين الفن والمقاومة: قراءة في عرض مسرحي يحتفي بالذاكرة الوطنية

 في إطار الاحتفال بالذكرى السبعين لاندلاع ثورة التحرير الوطني، قدم المسرح الوطني الجزائري عرضًا مسرحيًا بعنوان “الثائرون” يوم 30 نوفمبر 2024 علي الساعة السادسة مساءا ، من تأليف جلال خشاب وإخراج كريم بودشيش ، سينوغرافيا بوخاري حبال، إنتاج المسرح الجهوي قسنطينة محمد الطاهر الفرقاني (2024) حيث تناول العمل قصة ملحمية تمجد الكفاح الوطني من خلال حياة المقاوم أرزقي أو البشير في منطقة القبائل الكبرى .

 

عرض “الثائرون”  يُعد نموذجًا فنيًا يخلد كفاح الشعب الجزائري ضد الاستعمار الفرنسي. هذا العمل المسرحي الذي أخرجه كريم بودشيش ونصه لجلال خشاب، يسلط الضوء على قصة المقاومة من خلال شخصية أرزقي أو البشير، التي تجسد صراعًا إنسانيًا عميقًا بين الظلم والحرية. في هذا المقال، سنسعى إلى تحليل العرض المسرحي بمنهجية أكاديمية، تتناول النص والإخراج والسينوغرافيا والأداء الفني، وصولًا إلى أثره الفني والاجتماعي.

 

1. النص المسرحي: بناء درامي يعكس عمق التاريخ

جاء النص المسرحي محكم البناء، حيث اعتمد المؤلف جلال خشاب على أسلوب درامي يسرد وقائع مستوحاة من ذاكرة الكفاح الجزائري. استند النص إلى شخصية أرزقي أو البشير، الذي مثل رمزًا للمقاومة الشعبية ضد الاستعمار الفرنسي في منطقة القبائل الكبرى.

تميز النص بالتوازن بين السرد التاريخي والدرامي، حيث لم يكتفِ بإبراز الجانب البطولي للشخصيات، بل تناول أبعادها الإنسانية والنفسية.  الحوار  في النص كان مليئًا بالدلالات الرمزية، حيث مزج بين بساطة اللغة التي تعكس حياة الريف، والقوة التعبيرية التي تحمل روح المقاومة.  نجح النص في خلق بنية للأحداث، حيث بدأت القصة بالحياة اليومية العادية وانتقلت تدريجيًا إلى تصعيد درامي مع تشكل فرقة المجاهدين، وصولًا إلى الأسر والحكم بالإعدام.

 

2. الإخراج: رؤية متكاملة للتعبير عن الكفاح

الإخراج الذي تولاه كريم بودشيش كان محوريًا في تحويل النص إلى عمل بصري ودرامي متكامل. اعتمد المخرج على تقسيم الفضاء المسرحي إلى ثلاثة محاور رئيسية:

 

·        الغابة: كرمز للحرية والمقاومة، حيث أضفى تصميمها شعورًا بالعزلة التي تحيط بالمجاهدين في مواجهة الاحتلال.

 

·        البيت: مكان دافئ يعكس البعد الإنساني والروابط العائلية التي تعطي معنى للكفاح.

 

·        قاعة المستعمر الفرنسي: فضاء بارد يمثل السلطة القمعية.

نجح المخرج في التنقل بين هذه الفضاءات بشكل سلس، مما أعطى العرض إيقاعًا متماسكًا وديناميكيًا.

 

3. السينوغرافيا: بيئة بصرية متعددة الأبعاد

السينوغرافيا في عرض “الثائرون” لم تكن مجرد خلفية للأحداث، بل كانت عنصرًا رئيسيًا في تعزيز الأجواء الدرامية.

 

·        الديكور: اعتمد على تصميم بسيط لكنه معبر، حيث استخدمت الكتل الديكورية مثل الأشجار والصخور لتجسيد الغابة، فيما عكست التفاصيل الدقيقة في البيت روح العائلة الجزائرية البسيطة.

 

·        الإضاءة: لعبت دورًا بارزًا في تحديد مزاج كل مشهد، حيث استُخدمت الإضاءة الدافئة في مشاهد البيت لتعزيز الحميمية، بينما عكست الإضاءة الباردة في قاعة المستعمر أجواء القهر والجبروت.

 

·        الألوان: تراوحت بين الألوان الطبيعية للغابة والألوان القاتمة في فضاء المستعمر، مما عزز التباين بين الحرية والقمع.

 

4. الأداء التمثيلي: تجسيد الصراع النفسي والجماعي

الأداء التمثيلي كان أحد أبرز نقاط القوة في العرض. جسد الممثلون أبعاد الشخصيات بتفاصيلها النفسية والجسدية.

 

·        شخصية أرزقي أو البشير: كانت المحور الأساسي للعمل، حيث نجح الممثل في نقل تحول الشخصية من قروي بسيط إلى قائد مقاومة شجاع.

 

·        الأدوار الثانوية: مثل الأخوين عبدون، الذين أضافا طابعًا جماعيًا للكفاح، ما عزز فكرة التضامن والتكاتف.

 

·        لغة الجسد: كانت متقنة، خصوصًا في مشاهد المعارك والاعتقال، مما أضفى على العرض واقعية وشحنة عاطفية قوية.

 

5. الموسيقى والأزياء والإكسسوارات: عناصر داعمة للأجواء الدرامية

 

·        الموسيقى: جاءت مرافقة للأحداث، حيث عززت المشاهد الحماسية بألحان ملحمية، بينما أضفت الألحان الحزينة بعدًا عاطفيًا في المشاهد مؤلمة.

 

·        الأزياء: عكست الحقبة التاريخية بدقة، حيث جاءت ملابس المجاهدين بسيطة، في حين كانت ملابس المستعمر تعكس السلطة والجبروت.

 

·        الإكسسوارات: البنادق والأسلحة التقليدية أضفت مصداقية على المشاهد، مما جعل الجمهور يعيش أجواء المقاومة.

 

يُعد عرض “الثائرون” عملًا مسرحيًا متكاملًا يعكس قدرة الفنون الأدائية على تخليد الذاكرة الوطنية ونقل القيم الإنسانية. من خلال نص درامي محكم وإخراج مبدع وسينوغرافيا دقيقة، نجح العرض في تقديم قصة المقاومة الجزائرية بأسلوب فني يحمل أبعادًا رمزية وجمالية. إن “الثائرون” ليس مجرد تكريم لثورة التحرير الوطني، بل هو دعوة لإعادة قراءة التاريخ من خلال الفنون، وتعزيز الروح الوطنية للأجيال القادمة. هذا العمل يُظهر كيف يمكن للمسرح أن يكون وسيلة للتعليم، الإلهام، والتغيير، جامعًا بين الإبداع الفني والالتزام الوطني.

قزاطي سارة