الرئيس تبون يلقي خطابا تاريخيا أمام نواب البرلمان بغرفتيه ويؤسّس لتقاليد سياسية راسخة في مسار بناء الجزائر الجديدة

“لم يتوجه أيّ رئيس جمهورية بخطابٍ من البرلمان منذ خطاب الرئيس الراحل بومدين في 1977″، “إننا اليوم نؤسس لسُنّة حميدة يوجّه فيها المسؤول الأول في البلاد خطابا عبر البرلمان”، “لقد قطعتُ على نفسي أن أتّخذ من الحوار البنّاء نهجاً للعمل ومن المصارحة أداة لتسيير الشأن العام”، هذه التصريحات القوية التي أطلقها رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون، صنعت تاريخا لم يسبق أن مرت به الجزائر التي اكتمل نضج مسيرتها الديمقراطية بخطاب رئيس الجمهورية أمام البرلمان بغرفتيه.

الرئيس تبون الذي أرسى دعائم جزائر جديد، هو اليوم يضع أسسا متينة لممارسات ديمقراطية لن تكون مقتصرة على تلك اللحظة العابرة التي ألقى خلالها خطابه أمس، بل إنها ستظل متشبثة بتاريخ لا يمكن لرؤساء الجمهورية الجزائرية من بعده إلا أن يعودوا إليه ويذكروا اسم رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون؛ كأول رئيس للجمهورية خاطب البرلمان بغرفتيه وسيستمر هذا الذكر إلى الأبد.

رئيس الجمهورية وقف أمام نواب البرلمان بغرفتيه، مشيدا بهم وبجهودهم ومعبرا عن فخره بتواجده أمامهم فهم كما وصفهم “ممثلو الأمة واللّبنة الأولى لإعادة البناء المؤسساتي في الجزائر الجديدة، كما شهد لهم بالنزاهة وبأنهم يشكلون أول برلمان تم انتخابه بلا مال سواء النظيف منه أو الفاسد.

الرئيس عاد بخطابه إلى اللحظات الأولى التي خرج فيها الشعب الجزائري في حراكه ضد الفساد والفاسدين، واستذكر “نداء الملايين الذين طالبوا بإنقاذ البلاد”، مؤكدا أنه لم يكن بوسعه التخلف عنهم، ومضيفا بقوله: “لقد عاهدت الشعب الجزائري الذي قلدني ثقته الغالية أن أعمل دون هوادة من أجل التأسيس لجمهورية جديدة.”

التزامات المترشح للانتخابات الرئاسية السيد عبد المجيد تبون، الـ54  والمتوزعة على 05 محاور رئيسية، كانت تقليدا جديدا في التقدم إلى منصب رئيس الجمهورية الجزائرية، وكما قال الرئيس في خطابه: “لأول مرة يكتب مترشح للانتخابات الرئاسية التزاماته”، مؤكدا أنّها لم تكن شفوية “حتى يحاسبنا من يريد أن يحاسبنا”، وقد كانت تلك الالتزامات، خلال السنوات الأربع الماضية بمثابة الإطار العام لعمل الحكومة ومؤسسات الدولة المختلفة.

“قبل 2019 تدهورت الحكامة وتفشى الفساد وتلوثت الحياة السياسية”، هكذا وصف الرئيس تبون الحالة التي وجد عليها الجزائر لحظة استلامه لرئاسة الجمهورية، ثم واصل بكلامه: “لقد كاد انسداد الأفق السياسي وتدهور الأوضاع الاجتماعية عشية فيفري 2019، أن يعصفا بمقومات الأمة ويفسحا المجال أمام المتربصين بالبلاد، ليشدّد بعدها على أنّ تلاحم الشعب مع الجيش أحبط مخططات تحطيم الجزائر.

الرئيس تبون استرسل في حديثه عن الإجراءات العملية التي اتخذها من أجل تطهير المناخ السياسي الفاسد بقوله: “قمنا بترقية القضاء الدستوري وإصلاحات تشريعية وتنصيب جيل جديد من الهيئات تباعًا، ولم ندخر جهدا من أجل تنفيذ برنامجنا بداية من الإصلاحات الدستورية الرامية إلى دولة القانون.

ليتحدث بعدها مباشرة عن الجانب الاجتماعي المرتبط كثيرا بحياة المواطن الجزائري ومعيشته، وبهذا الخصوص أكّد الرئيس تبون بقوله: “وصولا للإصلاحات الاقتصادية وتكريس الطابع الاجتماعي للدولة، واجهتنا تحديات جمة لتطبيق برنامجنا منها جائحة كورونا، التي سيّرنا أزمتها بنجاح ولعب فيها الجيش الوطني الشعبي دورا مهما”، مثنيا على الجيش الأبيض مقابل ما بذله من تضحيات في هذا الجانب.

رئيس الجمهورية تناول في خطابه الحديث عن “العراقيل المفتعلة” التي كانت تعترض برنامجه الإصلاحي الواعد، حيث أشار إلى “بقايا العصابة” التي لجأت إلى خلق ندرة مُفتعلة وضرب الاستقرار وزعزعة الثقة بين المواطن والدولة، مؤكدا أنها “حاولت افتعال ندرة في الغذاء والسيولة، واستعملت كل وسائل اليأس لضرب الجزائر وإدخالها في مرحلة انتقالية.”

ليتطرق بعدها إلى التزامه باسترجاع الأموال المنهوبة حيث قال بهذا الشأن: “استرجعنا ما مقابله 30 مليار دولار كممتلكات وعقارات، ولازلنا نواصل جهودنا مع عدة حكومات لاسترجاع أموال الشعب من الخارج.”، ثمّ تحدّث عن ملف فساد آخر لا يقل خطورة عن سابقه مبرزا: “كما أنهينا كابوس 26 ألف شركة وهمية كانت تنهب الخزينة العمومية.”

“في السداسي الأول من 2024 تكون السلطة التنفيذية قد انتهت من مشروع الرقمنة”، أكّد الرئيس تبون على تحقيق هذه الخطوة غير المسبوقة، ليشدّد بقوله: “أعمل من أجل جزائري كامل الحقوق من تيمياوين إلى حيدرة”، وهذا توضيح مهمّ للمساواة والعدالة في التوزيع والاهتمام بالمواطن أينما كان في هذا البلد القارة، ليشير بعدها إلى قيامه بإنهاء مهام بعض المسؤولين المتقاعسين في تلبية احتياجات المواطنين الملحة، حيث قال أنه اتخذ تلك القرارات مكرهًا.

وعن الشباب أكّد أنه كان من التزاماته أن يضع الثقة فيهم بهدف خلق جيل جديد من المقاولين الشباب، موجها شكرا خاصا لأولئك الذين لم يُبالغوا في طلب منحة البطالة، كما أضاف بقوله: “ولديّ ثقة عمياء في شبابنا وفي المجلس الأعلى للشباب الذي يمثلهم.”

ثمّ عرّج على الوضع الاقتصادي وكيف كانت مقاربته الإصلاحية فتحدث عن إطلاق عدد من المشاريع الهيكلية خصوصا في قطاع المناجم لتحريك عجلة التنمية، مشيرا إلى ما أسداه من تعليمات لكل المسؤولين في قطاع المناجم لتجنب تصدير المواد الخام وتصديرها بعد التحويل، كما أضاف بقوله: “نطمح حاليا إلى تصدير 5 ملايين طن من الحديد، وعندما يعمل منجم غار جبيلات بكل قدراته سنكون أول بلد يصدّر الفوسفات.”

الرئيس تبون لم ينس أن يشير إلى التزام آخر لسكان الجنوب الكبير كان قد قطعه على نفسه خلال ترشحه لرئاسة الجمهورية، حيث قال: “ما زلت عند عهدي بأن تصل السكة الحديدية لتمنراست وبشار وسترتبط المنيعة بها أيضا.”

وبخصوص مؤشرات الاقتصاد الوطني أكّد الرئيس تبون أن مؤسسات الأمم المتحدة والمؤسسات المالية الدولية تضع الجزائر في دول المناعة ضد مشاكل التغذية والمديونية، مبرزا أن احتياطي الصرف يفوق 70 مليار دولار وهو ضعف ما وجده تقريبًا عند تقلده منصب رئيس الجمهورية، وفي هذا السياق لفت إلى أن السبب ليس الأسعار فقط وإنما إرادة الوطنيين الأحرار.

الرئيس تبون جدد التزامه بعدم الذهاب إلى المديونية، كما أكّد أنّ نسبة التضخم حاليا تعرف تراجعًا في الجزائر والنمو الاقتصادي وصل إلى 4,2 بالمائة باعتراف من مؤسسات مالية دولية كما تم خلق معارض دائمة في بلدان شقيقة سمحت بالترويج للمنتوج الوطني دوليًا، والجزائر أضحت تتوسط ترتيب البلدان المعروفة بمؤسساتها الناشئة بعدما كنا في ذيل الترتيب، وهي اليوم تصنع 70 بالمائة من حاجياتها من الأدوية، ليشير إلى مستقبل الاقتصاد الجزائري بقوله: “نعم لا يزال المشوار طويلًا لكن الخطوات الأولى جاءت بنتائج جيدة وسنواصل العمل.”

وتوجه رئيس الجمهورية بخطابه لأبناء الجالية الجزائرية بالخارج، حيث أكّد أنّهم “في صلب اهتماماتنا وكل الأبواب مفتوحة أمامهم”، كما بشرهم بتخفيض يصل إلى 50 % في أسعار تذاكر الرحلات الجوية خلال شهر رمضان.

وفي الشأن الدولي أكّد الرئيس تبون أن “صوت الجزائر أصبح اليوم مسموعا في المحافل الدولية ونحن ندافع بشراسة عن مبادئ ثورتنا” كما أن الجزائر “ستُدافع من مجلس الأمن كعضو غير دائم عن إفريقيا والقضايا العادلة”، مؤكدا أن قضية الصحراء الغربية قضية تصفية استعمار وقضية فلسطين لن نتخلى عنها وأنّ ما يحدث وصمة عار.