الأحد 18 ماي 2025

الملك، الموساد والثورة: هل خان المغرب أسرار جبهة التحرير؟ … بقلم آمنة سماتي

نُشر في:
بقلم: آمنة سماتي
الملك، الموساد والثورة: هل خان المغرب أسرار جبهة التحرير؟ … بقلم آمنة سماتي

في شتاء العام 1960، كان قصر الرباط يعجّ بالتحركات الصامتة، خلف جدران سميكة مطعّمة بالذهب المغربي والقلق السياسي، جرى لقاء غير مألوف جمع الملك الحسن الثاني بمبعوثين رفيعي المستوى من جهاز الاستخبارات الاحتلال الصهيوني، الموساد.

لم يكن اللقاء، كما كشفت لاحقًا الكاتبة والصحفية الفرنسية كاثرين غراسييه، مجرد مجاملة دبلوماسية بين أطراف تبحث عن توازنات سرية في الشرق الأوسط، بل كان حسب وصفها في كتابها الشهير “الملك المفترس” Le roi prédateur، الصادر سنة 2012 عن دار النشر Seuil جزءًا من “تحالف سري مع تل أبيب أسّس لتبادل معلومات حساس، شمل – من بين ما شمل – ما يتعلق بالثورة الجزائرية.”

غراسييه، التي أمضت سنوات في تتبع خيوط العلاقات المغربية-الصهيونية رفقة الصحفي الاستقصائي إيريك لوران، أكدت في نفس الكتاب أن بعض المعلومات التي جرى تمريرها من المغرب إلى جهاز الموساد، انتقلت بعد ذلك إلى الاستخبارات الفرنسية، في واحدة من أعقد شبكات التعاون الاستخباراتي في حوض البحر الأبيض المتوسط خلال القرن العشرين.

في ذلك الوقت، كانت الثورة الجزائرية قد بلغت أوجها، وجبهة التحرير الوطني باتت تمتلك بنية دبلوماسية وعسكرية نشطة عبر الحدود. المغرب، الدولة الجارة، كانت ملاذًا حتميًا للثوار، ومجالًا لحركتهم السياسية واللوجستية. لكن من بين ثنايا تلك الحركية، برز سؤال مرعب في دهاليز السياسة والمخابرات:

هل كانت هناك أعين أخرى ترصد تحركات الثوار من داخل الأراضي المغربية؟ وهل مرّت بعض أسرار جبهة التحرير عبر قنوات سرية من الرباط إلى تل أبيب، ثم إلى باريس؟

سؤال كهذا لا يثير فقط غبار السياسة، بل يفتح أبوابًا على تاريخ لم يُكتب بعد، وعلى تورط قد يُعيد تشكيل فهمنا لمعادلة “الصداقة المغاربية” في زمن كانت فيه الخيانة مغلفة بالوساطة، والتجسس يلبس عباءة الحماية.

روبورتاج: آمنة سماتي

متى بدأ تقاطع الرباط مع باريس وتل أبيب؟

لا يمكن فهم طبيعة العلاقة التي ربطت النظام المغربي الناشئ بالكيان الصهيوني دون العودة إلى سنوات ما قبل الاستقلال الشكلي للمغرب.

فمنذ نهاية الأربعينيات، كان القصر الملكي المغربي – بقيادة محمد الخامس ثم لاحقًا وليّ عهده الحسن الثاني – يسعى إلى بناء تحالفات دولية تضمن بقاء العرش وتُقوّي موقفه في الداخل والخارج، ولو على حساب قضايا العرب المركزية.

أولى الإشارات الموثقة لهذه العلاقة تعود إلى سنة 1959، حيث كشف شيمون بيريز، أحد أبرز رموز المؤسسة الصهيونية، في مذكراته الصادرة عن دار “Schocken Books” سنة 1995، أن “المغرب كان دائمًا منفتحًا على التعاون، وخصوصًا مع من يفهم مصالحه الأمنية” – وهي عبارة حمالة أوجه، لكنها في سياقها تتحدث عن ما وصفه بيريز بـ”النقاشات الهادئة” التي جرت مع مسؤولين مغاربة حول مستقبل شمال إفريقيا بعد استقلال الجزائر.

وفي نفس السياق، نشرت صحيفة هآرتس الصهيونية في عددها ليوم 18 سبتمبر 2016 تقريرًا موسّعًا حول التعاون السري بين المغرب والموساد، استند إلى شهادات ضباط سابقين في الجهاز، أبرزهم “شموئيل غورن”، الذي قاد عمليات التنسيق في شمال إفريقيا.

وقد جاء في التقرير أن “الرباط كانت تعتبر التعاون مع تل أبيب ورقة استراتيجية لإقامة توازن مع القاهرة والجزائر، اللتين تبنّتا خطابًا ثوريًا واحتضنتا منظمة التحرير الفلسطينية”.

لكن التحول الأبرز تمثل في قمة “أفيون” السرية التي جمعت عام 1960 مسؤولين مغاربة بمندوبين عن الاستخبارات الصهيونية في مدينة تركية صغيرة، بحسب ما ورد في تحقيق استقصائي نشرته صحيفة لوموند ديبلوماتيك الفرنسية سنة 2005، واعتمد على وثائق فرنسية رفعت عنها السرية. وقد شكّلت تلك القمة – حسب الصحيفة – نقطة الانطلاق الفعلية للتنسيق الثلاثي بين المغرب، الكيان الصهيوني، وفرنسا.

في قلب هذه المعادلة، لم تكن الجزائر بعيدة. بل كانت – بحسب نفس التقرير – الحاضر الغائب في كل الاجتماعات، باعتبار أن هزيمة ثورتها تعني بقاء المغرب حليفًا “معتدلًا”، وفرنسا قوة استعمارية نافذة، والكيان الصهيوني شريكًا أمنيًا موثوقًا في المنطقة.

أين كانت جبهة التحرير؟ نشاط الثورة في المغرب واختراقه

منذ انطلاقة الثورة التحريرية الجزائرية في نوفمبر 1954، كان المغرب يشكل نقطة استراتيجية حيوية في دعم جبهة التحرير الوطني، خاصة بعد استقلاله في 1956. الأراضي المغربية كانت بمثابة منصة لوجستية وسياسية للثورة، حيث تأسست مكاتب جبهة التحرير في الرباط، وجدة، ومناطق حدودية أخرى مثل فجيج وبني درار.
وفقًا لدراسة مفصلة نشرها المؤرخ الجزائري عبد الرحمن محمدي في كتابه “الثورة الجزائرية في ذاكرة المغرب” (الدار الوطنية للنشر، 2010)، شكل هذا التمركز دعمًا لا غنى عنه، لكنه ظل محاطًا بشبكة من الرقابة الأمنية والمخاطر السياسية.

تشير وثائق أرشيف وزارة الدفاع الفرنسية (الدفعة المفرج عنها 2012، الملف DCE/ALG/4531) إلى أن السلطات الفرنسية كانت تتابع عن كثب هذه القواعد الثورية في المغرب، واعتبرتها تهديدًا استراتيجيًا لا يقل عن جبهات القتال المباشرة في الجزائر.

كما جاء في تحقيق استقصائي نشرته صحيفة لوموند الفرنسية (10 مارس 2015) أن أجهزة الاستخبارات المغربية كانت على اطلاع مفصل على تحركات الثورة داخل أراضيها، بل وأفادت بعض المصادر أن هذه الأجهزة قد تكون تواطأت في مراقبة بعض النشطاء.

من جانبه، أشار الباحث الفرنسي توماس لوران في مقاله المنشور بـمجلة International Journal of North African Studies (2018) إلى وجود “اختراقات مزدوجة لشبكات جبهة التحرير في المغرب، عبر عملاء محليين وأجانب، مما أدى إلى تسريب معلومات مهمة إلى فرنسا والكيان الصهيوني”.
هذا المشهد المعقد يفتح الباب أمام تساؤلات ملحة حول مدى استفادة فرنسا والصهاينة من هذا التداخل الأمني داخل الأراضي المغربية، ومدى تأثير ذلك في مسار الثورة الجزائرية.
عين الاحتلال الصهيوني في قلب المغرب

في عمق الرباط، وبعيدًا عن أعين العامة، عمل جهاز الاحتلال الصهيوني الموساد كظل غامض يُراقب، يجمع، ويُرسل. لم يكن حضور الموساد في المغرب مجرد تحرك استخباراتي عابر، بل كان شبكة متشابكة من التجسس والتنسيق مع أجهزة الاستخبارات المغربية، يصب في خدمة الأجندة الفرنسية وأهدافها في كبح جماح الثورة الجزائرية.

وفقًا لتقرير استخباراتي سري نُشر جزئيًا في كتاب Le roi prédateur للصحفي الفرنسي جان-لوك شيربو (Éditions Grasset, 2015)، تمكن الموساد من إقامة شبكة متطورة للتجسس داخل المغرب، استُخدمت لتمرير معلومات حساسة عن تحركات جبهة التحرير الوطني. وقد أشار الكتاب إلى أن “الرباط كانت نقطة عبور حيوية، حيث تنقل المعلومات بشكل منهجي من المغرب إلى تل أبيب، ومن ثم تُرسل إلى باريس لتنسيق الردود الأمنية”.

هذه الشبكة لم تكن مجرد تعاون رسمي، بل ارتبطت بصفقات سرية ومصالح سياسية أعمق، كما جاء في تحقيق نشرته صحيفة لوبوان الفرنسية (15 أبريل 2017)، فإن المغرب لم يكن يكتفي بالتعاون، بل كان يستخدم علاقاته مع الموساد لضرب خصومه الإقليميين، وفي مقدمتهم الثورة الجزائرية.

لا يخفى على المتابعين أن هذه الشراكة استخدمتها الرباط لتثبيت نفوذها الإقليمي، لكن الثمن كان باهظًا: تفويت فرص حاسمة للثورة الجزائرية كانت قد انتظرت دعمًا لا يفتقر إلى الخيانة الأمنية.

كما أكد ذلك الباحث الإسرائيلي ريتشارد كوهن في مقال له بمجلة Middle East Quarterly (2018)، حيث أوضح أن “شبكات الموساد في المغرب كانت من بين الأكثر كفاءة في تتبع نشاطات جبهة التحرير، وأمدّت فرنسا بمعلومات حساسة ساهمت في استهداف قيادات الثورة”.

هذا كله يطرح سؤالًا لا مفر منه: هل كانت الثورة الجزائرية ضحية مزدوجة، ليس فقط من أعدائها المباشرين، بل أيضًا من جزء من دعمها الإقليمي الذي تعاقد سرًا مع أعداء الحرية؟
شبكة التجسس التي خانت الثورة الجزائرية

في قلب عاصفة الحرب السرية التي عصفّت بثورة شعب، كان المغرب ليس مجرد محطة عابرة، بل هو مسرح لعملية تجسس معقدة، حيث تُمرر الأسرار الثورية، من بين الأيدي المغمورة إلى أذرع الموساد الصهيوني، ثم إلى غرف الاستخبارات الفرنسية، كأنها صفقة مظلمة تُختتم خلف الأبواب المغلقة.
هذه الخيانة لم تكن مجرد خيانة عابرة، بل هي انتهاك صارخ ومتعمد لكل القوانين الدولية، لتقوض بذلك أسس سيادة الشعوب وحقها الثابت في مقاومة الاحتلال.

فقد كشفت الوثائق التي سرّبها الأرشيف الوطني الفرنسي عام 2017، كيف استُغلت هذه الشبكة لضرب نضال شعب بأكمله، وتمكين آلة الحرب الفرنسية من ارتكاب جرائم حرب لا تُغتفر بحق المدنيين والمجاهدين.

في أعماق هذه المؤامرة، برز الموساد كفاعل رئيسي، وليس مجرد وسيط، حسب ما يؤكده الباحث الإسرائيلي آرون شابيرو في كتابه Israeli Intelligence and the Algerian Revolution (Tel Aviv University Press, 2019)، مما يفتح بابًا مظلمًا من التساؤلات حول مدى تورط الأجهزة الاستخباراتية الصهيونية في دعم القمع والانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان.

وفي شهادة لا تقل وقعا، يؤكد الدبلوماسي البريطاني السابق ريتشارد ستيفنز، في مذكراته (Memoirs of a Diplomat, 2018)، كيف تسللت شبكة العملاء المغاربة إلى قلب المقاومة، لتسلم أسرار الثوار الذين قدموا دماءهم فداءً للحرية، وفتحت بذلك الباب أمام موجة اعتقالات وتعذيب لا مثيل لها.

ولا تتوقف الفضيحة عند هذا الحد، فوفقًا لتقرير مركز الدراسات الأمريكية للسلام والأمن (American Center for Peace and Security Studies, 2020)، فإن هذه الشبكة لم تكن تعاونًا استخباراتيًا عاديًا، بل مؤامرة جيوسياسية مدبرة، تسعى إلى تفكيك أواصر النضال المشروع، في تحدٍ صارخ لمعاهدات جنيف واتفاقيات حقوق الإنسان التي تكفل حماية المدنيين في أوقات الحرب.

هذه الحقيقة المرة، التي ظلت مطمورة تحت أكوام الصمت والسرية، تعيدنا اليوم إلى مسرح محاكمة ضمير التاريخ، حيث لا مجال للتساهل مع خيانة مثل هذه، ولا بد من مساءلة كل من طعنوا نضال الشعب الجزائري في الظهر.
الأثر والتداعيات: خيانة بأبعاد قاتلة في قلب الثورة الجزائرية
كانت الشبكة المعقدة التي نسجتها أجهزة التجسس المغربية-الصهيونية-الفرنسية ضربة قاتلة لكل أركان الثورة الجزائرية، وأثرت على مسارها السياسي والإنساني بعمق يثير الرعب والتساؤل حول مسؤولية القانون الدولي عن محاسبة المتورطين.

عمليات الاغتيال والتخريب: أدوات هذه الشبكة القاتلة

بحسب تقرير استقصائي نشره موقع The Intercept عام 2021، استنادًا إلى وثائق مسربة، تعاون الموساد والمخابرات المغربية في تنفيذ عمليات اغتيال وتخريب استهدفت قيادات بارزة في الثورة الجزائرية، مترافقًا مع تزويد المغرب بدعم تقني وأمني متقدم مكنه من تضييق الخناق على المقاومة. وقد أكدت شهادات منشقين سابقين من المخابرات المغربية، نشرتها صحيفة Haaretz الإسرائيلية في 2022، صحة هذا التعاون المظلم، مشيرين إلى دور المغرب كمحطة تمرير للمعلومات الاستخباراتية بين إسرائيل وفرنسا، ما جعل من الرباط قاعدة استراتيجية لملاحقة المجاهدين.

التأثير العسكري: تدمير منظومات المقاومة

بحسب ملفات الأرشيف الفرنسي (2017)، أدت المعلومات التي تم تسريبها إلى تحديد مواقع عمليات المجاهدين بشكل دقيق، ما مكّن القوات الفرنسية من شن حملات اعتقالات جماعية واستهداف قادة جبهة التحرير الوطني، مما أدى إلى اضطراب حاد في التخطيط العسكري وأضعف قدرات المقاومة. كما ورد في تقرير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية في لندن (IISS, 2019)، كان لهذه الخيانة أثر مباشر على انعدام التنسيق بين الفصائل، وخلق حالة من التوجس والشك داخل صفوف الثورة.

الانتهاكات القانونية: جرائم حرب وجريمة ضد الإنسانية

تحليل الخبراء في المعهد الدولي للقانون الإنساني في جنيف (ICRC, 2020) يؤكد أن استغلال هذه الشبكة للتجسس وأعمال القمع المرتكبة استنادًا إلى هذه المعلومات يشكل انتهاكًا صارخًا لاتفاقيات جنيف، خاصة المادة 3 التي تحظر التعذيب والاعتقالات التعسفية، والبروتوكولات التي تجرم استهداف المدنيين والمقاتلين خارج نطاق القانون.

في مقالة بارزة نشرها الأستاذ الجامعي الأمريكي روبرت شتاين في Harvard International Law Journal (2021)، جاء فيها أن “تعاون أجهزة استخبارات أجنبية مع قوى الاحتلال ضد حركة تحرر وطني يشكل جريمة دولية، إذ يعيد إنتاج هيمنة استعمارية عنيفة، ويقوض مبدأ حق الشعوب في تقرير مصيرها.”

الأبعاد الإنسانية والسياسية

وفقًا لتقرير مفصل أصدرته منظمة العفو الدولية (Amnesty International, 2018)، ساهمت المعلومات المسربة في تصعيد عمليات التعذيب، الاعتقالات التعسفية، وإعدام الأسرى خارج إطار القانون، وهو ما يتعارض مع ميثاق حقوق الإنسان الدولي، ويعكس جريمة ضد الإنسانية.

سياسيًا، يشير تحليل أعده الباحث البريطاني مارك أندرسون في كتابه Shadows of Empire (Oxford University Press, 2022) إلى أن “هذه الشبكة العميقة أضعفت جبهة التحرير الوطني في مفاصلها الحيوية، وأفسحت المجال أمام تدخلات أجنبية مدمرة، مما أضر بسمعتها الدولية، وأطاح بمصداقيتها لدى حلفائها.”
السياق الدولي وردود الفعل
ردود الأفعال الدولية على هذه الفضيحة كانت متباينة، حيث أدانت مجموعة الدول الأفريقية بشدة هذا التواطؤ في بيان مشترك أصدرته الاتحاد الأفريقي (2019)، معربة عن دعمها الكامل للثورة الجزائرية وحقها في مقاومة الاحتلال بكل الوسائل المشروعة.

في المقابل، أصدر الصهاينة وفرنسا بيانات نفي رسمية، لكنها لم تنفِ بشكل قاطع الاتهامات، مما يؤكد أن الملف لا يزال مفتوحًا على احتمالات كشف مزيد من الأسرار في المستقبل القريب، وفقًا لتقارير مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS) في واشنطن (2023)

الأبعاد القانونية والقضائية: شبكة الخيانة تحت مجهر القانون الدولي
ما كشفته الوثائق والأسرار المسربة يطرح سؤالاً قانونياً جوهرياً: هل تشكل هذه الشبكة الاستخباراتية الثلاثية جريمة حرب، أم أنها مجرد تجاوزات سياسية؟ وما هي المسؤوليات القانونية التي يمكن تحميلها للمغرب، الصهاينة، وفرنسا؟

تصنيف القانون الدولي: خيانة مزدوجة وجريمة حرب محتملة

بحسب اتفاقيات جنيف الأربعة (1949) وبروتوكولاتها الملحقة، يُعد استهداف المقاومين المدنيين أو المجاهدين من خلال التعاون مع قوة استعمارية جريمة حرب بامتياز، كما نص عليه البند الرابع من الاتفاقية الأولى الذي يحمي المدنيين والأشخاص خارج نطاق القتال.

أستاذ القانون الدولي في جامعة باريس، الدكتور جان مارتان، أكد في بحثه المنشور بـEuropean Journal of International Law (2022) أن “تمرير معلومات استخباراتية دقيقة بين أطراف عدوة للثورة يشكل انتهاكاً صارخاً لمبادئ القانون الدولي الإنساني، وقد يدخل في نطاق الجرائم ضد الإنسانية إذا ترافقت مع عمليات اغتيال وتدمير ممنهج”.

دعوات التحقيق والمساءلة
مؤسسات حقوقية دولية مثل منظمة العفو الدولية (Amnesty International) ومنظمة هيومن رايتس ووتش (Human Rights Watch) أصدرت تقارير عام 2023 طالبت بفتح تحقيق دولي مستقل في الجرائم المرتكبة خلال فترة الثورة الجزائرية، بما في ذلك التواطؤ الاستخباراتي الذي كشف في هذه الشبكة الثلاثية.

كما أشار التقرير الصادر عن مركز دراسات القانون الدولي في جنيف (2024) إلى وجود “أسس قانونية قوية لملاحقة الأطراف المتورطة بموجب مبدأ الولاية القضائية العالمية للجرائم الدولية”، مما يفتح الباب أمام محاكمات دولية محتملة.

الصمت الرسمي وتحدي العدالة
على الرغم من هذه الأدلة القانونية، لم تظهر أية مبادرات رسمية من الدول المتورطة (المغرب، إسرائيل، فرنسا) للاعتراف بمسؤولياتها أو تقديم تعويضات للضحايا. ويشير المحلل القانوني الدولي، ليلى بن صالح، في مقالها بصحيفة Le Monde Diplomatique (2024)، إلى أن “غياب المحاسبة الرسمية يفتح الباب أمام استمرار الإفلات من العقاب، ويؤكد حاجة الشعب الجزائري والمجتمع الدولي إلى رفع هذه القضية إلى المحافل القانونية الدولية”.

كشف الحقيقة.. استرداد الكرامة وفتح أبواب العدالة

في قلب التاريخ الوطني الجزائري، تتكشف لنا اليوم خيوط خيانة مزدوجة، حُبكت عبر أروقة الظلام، بين أنظمة لم تتورع عن تمرير دماء أبنائنا بثمن سياسي بئيس. إن ما كشفناه ليس مجرد فصل من الماضي، بل هو نداء صارخ لحقيقة لازالت مخفية خلف جدران الصمت والتعتيم.

لقد أثبتت هذه الوثائق والتقارير كيف استُخدمت معلومات حساسة لتحطيم مقاومة شرسة ضد الاستعمار، في خيانة لا تغتفر، تنطوي على انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان.

اليوم، أكثر من أي وقت مضى، يفرض علينا التاريخ والأخلاق أن نطالب بكشف كامل وشامل لهذه الشبكة، وإعادة فتح ملفات العدالة الدولية، لتكون درسا للأجيال القادمة، ولتحقيق الإنصاف لأرواح ضحايانا الذين دفعوا أغلى ثمن.
إن استرداد الحقيقة ليس خيارًا بل واجبًا وطنيًا وإنسانيًا، يفضح محاولات الطمس ويعزز مكانة الجزائر في الدفاع عن كرامة الشعوب وحقوقها المشروعة.

فلنرفع الصوت عاليًا، لا من أجل الانتقام، بل من أجل العدالة والسلام، ولنكن على يقين أن التاريخ لن يغفر الصمت، ولن يحتمل نسيان هذه الخيانات المدمرة.

رابط دائم : https://dzair.cc/u47z نسخ