رجاحة العقل في البديهية والارتجال..بقلم / هاجر ميموني

مروان الشيباني

الكلام هو عبارة على أصوات تخرج من فم الإنسان تتحكم فيها الحبال الصوتية في حلقه، ثم اللسان والشفتان، ومن ثم تصبح الأصوات تعبر عن رموز لغوية معينة، قاعدتها الحرف الصوتي فالكلمة ثم الجملة وتصبح حديث تواصل. ولا يرقى أي كلام إلى مستوى الكلام، إلا إذا اجتمع فيه اللفظ والإفادة، فالصوت المستعمل على بعض الحروف تحقيقا وتقديرا، والإفادة إذا ما دلّ هذا الصوت على معنى معين ومصطلح عليه بين المتكلم والسامع، على أن يكون ذلك وفق القواعد التي تضبط لغة اللفظ.

والكلام هو وسيلة اتصال وتبليغ ضرورية وفعالة جدا، ومصدر إنشاء ألفاظه النفس والعقل، ويقول أبو حيان التوحيدي عن ذلك:”وبالجملة الألفاظ وسائط بين الناطق والسامع، فكلما اختلفت مراتبها على عادة أهلها كان وشيها أروع وأجهر، والمعاني جواهر النفس، فكلما ائتلفت حقائقها على شهادة العقل كانت صورتها أنصع وأبهر”. كما ربط ابن رشد اللغة التي يُنطق بألفاظها، بدلالة المعاني المربوطة بالنفس، حين قال: “إن الألفاظ التي ينطق بها هي دالة أولا على المعاني التي في النفس، والحروف التي تكتب دالة أولا على هذه الألفاظ”.

ويُفصل ابن سينا في ترتيب الألفاظ ومعانيها بمناجاة الإنسان لذهنه ليخرجها بلزوم ما يطابقها في النفس من معاني، إذ يقول: “ولكن لما كانت الضرورة تدعو إلى استعمال الألفاظ، وخصوصا ومن المتعذر على الروية أن ترتب المعاني من غير أن تتخيل معها ألفاظها، بل تكاد تكون الروية مناجاة من الإنسان لذهنه بألفاظ متخيلة، لزم أن تكون للألفاظ أحوال مختلفة تختلف لأجلها أحوال ما يطابقها في النفس من المعاني، حتى يصير لها أحكام لولا االألفاظ لم تكن”.

والكلام ارتجالا، يختلف عن الكلام المدون بالكاتبة، فالارتجال، يحدث في مواقف يكون فيها الوقت غير كاف للمرتجل لتمحيص كلامه ليتدارك الخطأ لغة أو معنى أو مدلولا، في حين أن الكاتب له متسع من الوقت للتفكير لاختيار اللفظ ومكان توظيف أو تغير موقعه ليدل على ما يريد إيصاله. وعلى اعتبار الكلام هو تعبير على خالجة من خوالج النفس يتعامل العقل معها ليخرجها ألفاظ، يرى صاحبها أنها الأنسب لإيصال رسالة للمستمع، فهنا تقاس رجاحة العقل بقوة الألفاظ المستعملة ودلالتها، عند ارتجالها في مواقف معينة. ويصبح الأمر مرآة تعكس منحيات رجاحة العقل من عدمها.

وتلمس رجاحة العقل في مآثر العظماء والحكماء وذوي البأس الشديد، فقبل أربعة عشر قرنا، في أمة العرب، وُجد شخص اسمه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ينطبق عليه حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: “خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا”، ودعا الله عز وجل بأن ينصر الإسلام بعمر بن الخطاب، وحدثت واقعة في عهد ولايته معروفة، وهي: واقعة اشتراك ابن والي مصر وقتها عمرو بن العاص مع غلام من الأقباط في سباق الخيول فسبقه الغلام القبطي، ولم يستسغ ابن عمر بن العاص ذلك، فضرب الغلام اعتمادا على سلطان أبيه بالسوط وهو يقول له: أنا ابن الأكرمين؟ وفي عجز الغلام عن أخذ حقه منه، رجع إلي بيتهم باكيا، ولما علم والده بالأمر اشتاط غضبا، ولم يجد بدا من الشكوى لبعض الناس من هذا الظلم فأشاروا عليه برفع الأمر إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، فسافر الغلام رفقة أبيه إلى المدينة المنورة، ليشتكيه إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، فلما بلغت الشكوى مسامعه، كتب أمير المؤمنين إلى عمرو بن العاص يأمره أن يحضر إلى المدينة المنورة صحبة ابنه، فلما حضر الجميع أمامه، ناول عمر بن الخطاب الغلام القبطي سوطًا وأمره أن يقتص لنفسه من ابن عمرو بن العاص، وقال له: اضرب ابن الأكرمين، فتناول الغلام السوط وضرب به ابن عمرو بن العاص اقتصاصا لحقه. ثم قال عمر بن الخطاب للغلام القبطي: لو ضربت عمرو بن العاص ما منعتك! إنما الغلام ضربك لسلطان أبيه، ثم التفت إلى عمرو بن العاص وقال قولة لم يسبق وأن قالها قبله شخص آخر: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحررا.

ولما احتمى عمر بن العاص بعذر جهله بما حدث، قال له عمر بن الخطاب: إن كنت تدري فلك مصيبة، وإن كنت لا تدري فالمصيبة أعظم.

ليأتي في أربعينات القرن الماضي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان ويقتبس مما قاله عمر بن الخطاب، حين جعل في مادته الأولى: أن جميع الناس يولدون أحرارا. ما كان عمر بن الخطاب فيلسوفا أو درس على أيدي فطاحل فلاسفة عصره الفلسفة، وإنما كان يمتلك عقلا راجحا، ينطبق عليه قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا”، وليس “خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام”، بحذف أداة الشرط ـ إذا ـ وما بعدها كما يروى على بعض الألسنة.

هاجر ميموني

شارك المقال على :