الرئيسية / اقلام دزاير

رحلة القراءة تبدأ من البيت: كيف نربي جيلًا قارئًا؟ .. بقلم الكاتبة حنان مهدي

حجم الخط : +-

كنت أحضر لإجراء حوار صحفي مع الكاتب الفلسطيني زياد خداش، ومؤكد أن إجراء لقاء رفقة شخصية أدبية مرموقة بحجمه يستلزم خلفية معرفية كبيرة بأدبه وسيرته، وبينما وجدتني أغوص في قصصه ومقالاته، لفت انتباهي ذكره لأثر والده عليه في صقل موهبته بالكتابة.. ببساطة، لقد كان والده المهووس بالقراءة يقتني له الكتب الفكرية والروايات والقصص ويشاركه قراءتها دوما، ومع تكرار هذا الفعل اكتسب رصيدا لغويا وزخما فكريا متنوعا جعل منه مؤلفا عظيما، حتى صار أشهر كتاب تسعينيات القرن الماضي وأبرز أقلام المقاومة والقضية الفلسطينية.

 

لماذا قد يلفت انتباهي تفصيل صغير كهذا؟ ببساطة فقصة هوسي بالقراءة والكتابة تشبهه إلى حد ما. لقد تبادر إلى ذهني مباشرة خزانة أبي المليئة بالكتب التي لازمت غرفة طفولتي أنا وأختي خلال التسعينيات، تلك الخزانة التي تحتوي على أرقى الموسوعات العلمية والفكرية آنذاك وقليلا جدا من الكتب الأدبية.. صحيح أنني لا أذكر بتاتا أن أبي قرأ برفقتي كتابا في يوم ما، ولكنني أذكر جيدا كيف كنت آخذها على حين غفلة منه وأبحر بين طياتها بسعادة غامرة وكأنني رحلة خيالية لاكتشاف عالم عجيب.. لقد كبرت في جو تقع فيه عيني على الكتب، وربما هذا هو سر هوسي بالقراءة وعشقي اللامتناهي لها، فلا أكاد أمر على مكتبة، إلا وتسحبني روحي إليها لأخرج منها خاوية الجيوب وفي جعبتي تشكيلة مميزة من أحدث الاصدارات لمكتبتي المنزلية التي بدأت تأسيسها خلال دراستي بمرحلة المتوسط.

 

 

لعلى هذا التفصيل الصغير من تجربتي والذي أدركت فيه أهمية المكتبة المنزلية في تنشئة فرد قارئ، هو ما جرني لاطلاق حملة “نحن نقرأ الوطنية” شهر جويلية الفارط ومبادرة “اقرأ لي”، لقد كان الهدف من هذه المبادرة هو تشجيع الآباء والأمهات على قراءة القصص لأطفالهم منذ سن صغيرة ودعوتهم إلى تنظيم جلسات قراءة في البيت بشكل دوري ولو لمرة واحدة أسبوعيا.. والنقطة الأبرز في هذه الحملة هو دعوتهم لتأسيس مكتبة منزلية صغيرة في غرف النوم، ولو على شكل رفوف تعلق في الجدران.. المهم هو أن تحتوي على كتب ممتعة وقصص محببة لأولادهم وأن تكون خارج اطار المنهاج الدارسي وأن تقع عيونهم عليها كل يوم.. لماذا يا ترى؟ طبعا، هذا سيجرنا لسؤال أعمق.. ماهو سبب تدني مستويات المقروئية في العالم العربي؟!

 

الجواب ياكرام: يكمن في الأسلوب التربوي الخاطئ الذي ينتهجه الآباء والأمهات فأغلبهم يربطون فكرة القراءة بالدراسة والامتحانات بل ويستخدمونها كوسيلة لعقاب أبنائهم.. فمثلا حينما يرتكب الطفل خطأ ما، يقولون له: “ممنوع عليك اللعب والخروج من البيت أو مشاهدة التلفاز.. اذهب لتقرأ فورا”.. هنا؛ تتشوه فكرة القراءة في أذهان الأطفال ويعتبرونها نتيجة حتمية لجرم وقعوا فيه؛ ويتحولون بعدها إلى كائنات كارهة للكتب المملة حسب تجربتهم المريعة!

 

ولتصحيح هذا الخطأ التربوي، يكمن الحل في تغيير الصورة النمطية للقراءة وتشجيع الأطفال على المطالعة من خلال جعلها تجربة ممتعة ومرحة. ويتمثل ذلك في تنظيم جلسات قراءة عائلية في المنزل، خصوصاً خلال مرحلتي الطفولة المبكرة والمتوسطة.. فمع تكرار هذا الفعل، سنتمكن بمرور السنوات أن نحقق النتائج المرجوة مستقبلا، وهي صناعة فرد قارئ يمتلك شغفاً بالكتب والمعرفة.

 

إن الإلتزام الفعلي بهذه العادة أسلوب ناجع وفعال في بناء علاقة بين الطفل والكتاب بطريقة حميمة وتفاعلية، لأن الطفل سيدرك مدى متعة القراءة باعتبارها نشاطا فكريا؛ ووسيلة لفهم العالم والتواصل مع أفكار الآخرين، وسيرتبط ذهنياً بالكتاب كوسيلة للمتعة والاستكشاف وليس كواجب مدرسي.. كما أن مشاركته هذا النشاط الترفيهي سيعزز من قدرته على التركيز وينمي مفرداته ومهاراته اللغوية؛ ومن جانب آخر فإن التفاعل بين الأهل وأطفالهم خلال الجلسات يعزز الروابط العاطفية بينهم ويخلق ذكريات دافئة تدوم على المدى البعيد؛ فعندما يستمع الطفل إلى والديه يقرآن له سيتعلم القيم، ويكتسب معان أعمق من خلال الشخصيات والمواقف التي تتناولها القصص، و علاوة على ذلك ستنفتح أمامه أبواب الخيال وتدفعه للتساؤل والتفكير النقدي.

 

وعموما فأهمية جلسات القراءة لا تقتصر على الجانب اللغوي فقط، بل تساهم أيضا في بناء ثقافة الاستماع والمناقشة لدى الطفل، مما يؤثر إيجابيا على مهاراته الاجتماعية والثقافية.. لذلك فغرس عادة القراءة في سن مبكرة هو استثمار في مستقبل الأطفال فكريا وعاطفيا وأيضا انقاذ للمجتمع الذي بات شبابه يسقط في فخ السطحية والبلادة.

 

قد يكون من السهل التغاضي عن أهمية تخصيص وقت للقراءة مع الأطفال داخل البيت في ظل انشغالات الحياة اليومية وكثرة المسؤوليات الاجتماعية للآهالي، لكن النتائج التي يمكن أن تتحقق من خلال هذا النشاط البسيط والممتع حقا ستكون عظيمة عند كبرهم، فنحن لا ننتظر منكم صناعة مؤلفين وكتاب مثل زياد خداش كما ذكرت من خلال تجاربنا الشخصية.. بل هي دعوى للمساهمة بإحداث التغيير الذي ننشده وتحقيق حلم تنشئة جيل قارئ، لأن تبنيكم لهذا السلوك سيعود عليكم بالنفع أولا قبل منفعة المجتمع كون الأطفال أبناؤكم بالدرجة الأولى.

 

ختاما؛ لا يسعني سوى القول: بأن رحلة غرس حب القراءة تبدأ من البيت، فمنه تبدأ أولى خطوات بناء جيل محب للكتب.. جيل قادر على الفهم والتفكير والإبداع!

 

 

بقلم الكاتبة: حنان مهدي

مقالات ذات صلة

ما الذي خسره الكيان الصهيوني في اتفاق وقف إطلاق النار؟ بقلم الدكتور سمير باكير

01 ديسمبر 2024

الجيل الصاعد في إفريقيا يرفض تواجد فرنسا

29 نوفمبر 2024

في لحظة تشتت… بقلم الإعلامية التونسية فريهان طايع

28 نوفمبر 2024