يبدو أن قطار التطبيع قد توقف، فقمّة النّقب التي كان مقررا أن تنعقد تم تأجيلها والمحتل الصهيوني يقايض ويبتز بموقفه الملح: الاعتراف بمغربية الصحراء عند عقد القمة. من جانبه يصر المغرب على تأجيل عقد القمة تحت حجة أن “شريكه” الكيان الصهيوني لم يبد إلى الآن “وجها مقبولا” فيما يتعلق بما فعلته قواته في جينين أو فيما يخص بسياساته الاستيطانية، إضافة إلى بروده حيال مسألة الاعتراف بـ “مغربية الصحراء”.
وإذا كان الموقف الصهيوني لا يثير أيّ قدر من الغرابة بحكم مساره التاريخي مع الغدر ونكث العهود، على الأقل خلال الثلاثين سنة الأخيرة هي عمر المفاوضات الفلسطينية-الإسرائيلية، فإنّ موقف المغرب يدعو إلى الرثاء بعد أن كشف عن مدى غباء وحمق نظام المخزن الذي قبل التطبيع مع الكيان الصهيوني ومضى بخطوات عملاقة في هذا الاتجاه، حتى وصل به الأمر إلى أن يتوسّل كثيرا من كيان لم يكن يعترف به قبل التطبيع، أن يعترف له بما هو معتقد أنّه جزء من أراضيه، فما الحاجة إلى اعتراف من يحتاج إلى اعتراف بما هو تابع له أصلا، هذا لا يفسره إلا أن المخزن يشكّ أصلا في أنّ الصحراء تابعة للمغرب، ولذلك فهو يتعامل معها كما ينظر اللص إلى المسروقات التي بحوزته، إنّه يحتاج إلى لصّ آخر مثله كي يعترف له بملكيته لها.
وإذا كان الكيان اللّص قد صدّع العالم بأكذوبة المحرقة النازية، فها هو يفعل مع الفلسطينيين ما لم يفعله جيش هتلر مع الأوروبيين، والعجيب أن يعترض نظام المخزن على سياسات الكيان الصهيوني الاحتلالية والاستيطانية ولا يلتفت هو إلى ما تفعله قواته الغاصبة في الأراضي الصحراوية من قمع يومي ممنهج ضد الشعب الصحراوي، إنّها المعادلة الصعبة على الحلّ.
مؤخرا عرض موقع “ميدل إيست مونيتور” تقريرا له بخصوص مسار التطبيع بين الكيانين المخزني والصهيوني، وما إذا كان قطاره قد أطلق صافرة الوصول إلى طريق مسدود، الموقع استهل مقاله بالحديث عن موقفين اثنين مهمين يتيحان معلومات مهمة بشأن هذا المسار، الموقف الأول صدر عن وزير خارجية المخزن ناصر بوريطة، الذي أعلن عن تأجيل منتدى النقب بالكيان الصهيوني لحين معرفة تطور الأوضاع السياسية، على خلفية التصعيد الإسرائيلي بجنين وسياسات الاستيطان، حيث أعرب بوريطة خلال مؤتمر صحفي عقده مع نظيره السويسري إغناسيو كاسياس بالرباط، عن حاجة المنتدى لشروط موضوعية لتحقيق “أهدافه” في دعم الأمن والسلام في المنطقة.
وواضح من كلام بوريطة أنّ المخزن قد شعر بأحد أمرين حتّى اتخذ قرار عدم عقد منتدى النقب، إمّا أنّه ينظر إلى مغبّة الثقة في كيان لم يثبت للحظة أنّه جاد في مزاعمه للسلام مع العرب وتوفير الأمن للمنطقة، وهو ما تجنيه للأسف السلطة الفلسطينية في جنين وفي غزة وفي الأراضي المحتلة، حيث ثبت لكل لبيب أريب أنّ من ينتظر من المفاوضات حول السلام المزعوم أن تعيد للشعب الفلسطيني حقوقه كمن ينتظر أن تنبت الأزهار في الثلج، وهكذا فإن الكيان الذي اعترف به المخزن من المستحيل أن يعترف بمغربية الصحراء، طالما أنّه لم يفعل ذلك من البداية، أي ساعة الإعلان عن التطبيع قبل أكثر من عام.
من جانب آخر، وهذا محتمل جدّا من نظام مخزني يستخدم جميع الأساليب القذرة للوصول إلى أهدافه التي لا تقل قذارة عن أساليبه، أن يكون بوريطة ومن أمره يستخدمون معاناة الشعب الفلسطيني كذريعة لابتزاز الكيان الصهيوني والضغط عليه حتى يقدّم لهم ما يريدونه، لكن الكيان الصهيوني لا تنفع معه مثل هذه الحيل المفضوحة من المخزن الجبان الذي كان بوسعه أن يبتز بمواقف أخرى أكثر جرأة ليس أقل منها تراجعه عن الاعتراف بالكيان الصهيوني وإيقاف مسار التطبيع، وهذا ما يؤكّد أن المخزن طبع مع الكيان الصهيوني من أجل هدف آخر هو الإمعان في معاداة الجزائر بطريقة فيها كثير من الانتقام والحقد.
موقع “ميدل إيست مونيتور” أورد موقف وزير خارجية إسرائيل، إيلي كوهين، في ما يتعلق بتحليله حول إمكانية توقف مسار التطبيع، الذي ربط اعتراف كيانه بمغربية الصحراء بعقد منتدى النقب، ولمزيد من السخف والإثارة استرسل كوهين بسرد كلام ألقاه على ذقن المخزن السّاذج، مؤكدا أن حكومته تعمل على هذه القضية وستتخذ قرارها النهائي في منتدى النقب، وهو موقف في الحقيقة مريب ويدلّ على أنّ الكيان الصهيوني يطيل الحبل بالمخزن ولن يعترف له بأيّ شيء، فما دخل عقد منتدى النقب بالاعتراف بمغربية الصحراء، التي من المفترض أنّها لا تستدعي الانتظار بهذا الشكل غير المفهوم أو المبرّر، وهي من المؤكّد لا تحتاج إلى دراسة ونظر طالما أنّها لن تعدو أن تكون سوى مقابلا عن اعتراف المخزن بالكيان، فهذا ما استند عليه اتفاق التطبيع أصلا: التطبيع مقابل الاعتراف.
وبعيدا عن جدلية “الاعتراف أولا أم عقد المنتدى”، التي تشبه الجدل الفلسفي الذي قام حول من جاء إلى الدنيا أولا؛ الدجاجة أم بيضتها، تحدثت مسؤولة صهيونية على قناة إسرائيل 24 بالعربية، حول قضية عدم اعتراف الكيان الصهيوني بمغربية الصحراء، بكثير من الحقيقة وأكدت أن كيانها يخشى من استفزاز الجزائر بهذا الاعتراف، ومن قيامها بمنع إسرائيل نهائيا من اختراق الاتحاد الإفريقي وتحقيق مزيد من التغلغل في القارة السمراء.
للإشارة لم تكن هذه المرة الأولى التي يتم فيها تأجيل منتدى النقب الذي من المفترض أن يحضره وزراء خارجية الولايات المتحدة والكيان الصهيوني ومصر والإمارات والبحرين بالإضافة إلى المغرب، فقد تم تأجيله لأكثر من مرة دون ذكر الأسباب، لكن بوريطة ربط هذه المرة التأجيل بسياسيات إسرائيل التي لا تشجع على السلام والاستقرار في المنطقة، فهل هذا معقول، وكما يقال رب عذر أقبح من ذنب، ومتى شجعت إسرائيل على الاستقرار في المنطقة إذا كانت هي أصلا سبب الاضطراب وهي تشكّل أكبر وأخطر تهديد لأمن المنطقة برمتها.
أحمد عاشور