خلال السنوات القليلة الماضية، عجزت فرنسا عن الحفاظ على نفوذها التاريخي وهيمنتها على مستعمراتها السابقة في القارة السمراء، وخاصة في منطقة الساحل التي أرغمت دولها الواحدة تلو الاخرى باريس على سحب قواتها من أراضيها، مشددة على احترام سيادتها التي كانت فرنسا قد انتهكتها بموجب اتفاقيات فرضتها على أنظمة الحكم السابقة التابعة لها.
وكانت تشاد، آخر دولة في منطقة الساحل تفقد فيها فرنسا نفوذها وذاك بعد إنهاء السلطات التشادية اتفاقيات الدفاع بينها وبين الاخيرة شهر نوفمبر الفارط.
وعلى الرغم من الانتقادات التي طالت حكومة ماكرون من طرف نواب البرلمان الفرنسي عقب هذه الانتكاسات التي عصفت بالنفوذ الفرنسي في افريقيا، إلا أن القرارات الأخيرة لكبار المسؤولين الفرنسيين المتعلقة بالجزائر تؤكد عدم اكتراثهم بما يجري في غرفة البرلمان.
وعلى خلفية اجتماع وزاري طارئ تم عقده في 26 من فبراير الجاري لمناقشة موضوع الهجرة والأزمة مع الجزائر، أعلن رئيس الوزراء الفرنسي فرنسوا بايرو، أن بلاده “ستطلب من الحكومة الجزائرية مراجعة جميع الاتفاقيات الموقعة بين البلدين عام 1968 والنظر في طريقة تنفيذها”، مضيفا بأنه سيعطي الحكومة الجزائرية “شهرا إلى ستة أسابيع” كمهلة للقيام بذلك.
وأضاف بايرو أن هذه الإتفاقيات “لم يتم احترامها”، مؤكدا أن الحكومة الفرنسية “لا يمكنها أن تقبل استمرار هذا الوضع”.
وأعقب ذلك قائلا بأن بلاده “ستُقدم للحكومة الجزائرية قائمة عاجلة للأشخاص الذين يجب عليهم العودة إلى بلادهم”.
وقبل ذلك صرح وزير الخارجية الفرنسي، جان نويل بارو، 25 فبراير الفارط، أن بلاده أقرت “قيودا على حركة ودخول الأراضي الوطنية تطال بعض المسؤولين في الحكومة الجزائرية”.
وبحسب الوزير الفرنسي فإن هذه “الإجراءات الإضافية” ضد الجزائر جاءت كنتيجة لاعتقال الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال و”رفض” الجزائر استقبال بعض المواطنين الجزائريين الذين تم طردهم من فرنسا. وأوضح بارو أن هذه الإجراءات قابلة للتراجع ويمكن إنهاءها بمجرد رضوخ الجزائر للمطالب الفرنسية.
وكرد على ما جاء في تصريحات وزير الخارجية الفرنسي، أعربت وزارة الخارجية الجزائرية عن “استغرابها ودهشتها” إزاء تدابير تقييدية على التنقل ودخول الأراضي الفرنسية، منددة بحلقة جديدة من “الاستفزازات”، واعتبرت أن “أي مساس باتفاقية الهجرة لسنة 1968 التي تم أصلا إفراغها من كل مضمونها وجوهرها، سينجر عنه قرار مُماثل من الجزائر بخصوص الاتفاقيات والبروتوكولات الأخرى من ذات الطبيعة.”
كما أكدت الخارجية الجزائرية رفضها لما أسمته “خطاب المهل والإنذارات والتهديدات” التي جاءت في تصريحات رئيس الحكومة الفرنسية.
ويرى بعض الخبراء أن قضية الكاتب صنصال بوعلام، الذي كان مسؤولا في وزارة الصناعة الجزائرية وتحصل على الجنسية الفرنسية قبل سبعة أشهر، بالنسبة للجزائر شأن داخلي ولا يحق لأي دولة التدخل فيه، خاصة وأنه متهم بتهديد أمن الدولة والخيانة، بعد أن استخدمه اليمين المتطرف الفرنسي للتشكيك حول شرعية الحدود التاريخية للدولة الجزائرية، معتبرا بأن جزءا منها يعود إلى المغرب.
وأضاف نفس الخبراء أن هذه التصريحات النابعة عن المسؤولين الفرنسيين تعتبر بمثابة القطرة التي ستفيض الكأس وتنسف بالعلاقات بين البلدين، خاصة وأنها عرفت تدهورا شديدا في السنتين الأخيرتين.
وتجدر الإشارة أن هذه القرارات التي اتخذتها باريس جاءت على خلفية الهجوم الذي وقع في مدينة ميلوز شرق فرنسا، والذي نفذه مشتبه به جزائري وهو مهاجر غير شرعي كان يواجه أمرًا بمغادرة الأراضي الفرنسية.
ويعود تاريخ التوتر الذي طرأ على العلاقات بين البلدين إلى فبراير 2023، أين اتهمت الحكومة الجزائرية الاستخبارات الفرنسية بمحاولة تنفيذ عمليات تستهدف الجزائر، وذلك بعد تورطها في تهريب الناشطة أميرة بوراوي، الحاملة للجنسية الفرنسية والتي كانت متابعة قضائيا، وقد اعتبرت الجزائر آنذاك الحادثة “تدخلاً سافراً” في شؤونها الداخلية.
وكانت الطعنة الموجعة التي تلقتها الجزائر في ظهرها، في 30 يوليو 2024، عندما أعلنت باريس عن دعمها لخطة الحكم الذاتي المغربية للصحراء الغربية ، ما أثار استياء الحكومة الجزائرية وجعلها تسحب سفيرها من فرنسا في نفس اليوم، كما دفعت بالرئيس الجزائري عبد المجيد تبون لإلغاء زيارة كانت مرتقبة إلى فرنسا أكتوبر 2024، وتوجيه انتقادات لاذعة لحكومة ماكرون.
ولم تكتفي فرنسا بذلك فحسب، بل عمد ماكرون شخصيا لاستفزاز الجزائر، من خلال زيارته إلى المغرب في 24 أكتوبر 2024، أين أكد في كلمة ألقاها أمام البرلمان المغربي دعم بلاده لـ”سيادة المغرب” على الصحراء الغربية، مشيرًا إلى أن “حاضر ومستقبل الصحراء يندرجان في إطار السيادة المغربية”.
إضافة إلى هذا، ففي ديسمبر الفارط، حصلت الجزائر على معلومات مؤكدة تثبت تورط المخابرات الفرنسية في محاولة زعزعة استقرار البلاد بصورة مباشرة من خلال تجنيدها لإرهابيين سابقين في الجزائر وتوجيههم لتنفيذ هجمات إرهابية في البلاد، وهذا ما دفعها إلى استدعاء السفير الفرنسي بالجزائر ستيفان روماتيه آنذاك لـ “توجيه توبيخ” لحكومته.
وبدورها لم تقف الجزائر مكتوفة الأيدي عقب كل هذه الإستفزازات الفرنسية، بل عمدت إلى اتخاذ سلسلة من الإجراءات والتدابير، أبرزها ثقافية واقتصادية وتجارية، حيث بدأت في المدارس والجامعات بإلغاء التدريس باللغة الفرنسية والتركيز أكثر على الإنجليزية، وتم استبعاد اللغة الفرنسية من الاستخدام كذلك في الإدارات والمؤسسات العمومية، كما تم تقليص حصة الشركات الفرنسية في السوق الجزائرية وإلغاء صفقات تخص هذه الشركات، وتراجعت أيضا قيمة الصادرات الفرنسية إلى الجزائر من 3.2 مليارات دولار أميركي في 2023 إلى أقل من 600 مليون دولار في عام 2024.
ويبدو أن الفجوة في العلاقات بين البلدين قد اتسعت بشكل غير مسبوق هذه المرة بعد القرارات التي اتخدها المسؤولون الفرنسيون ضد الجزائر، ومن المحتمل ٱن تقدم الحكومة الجزائرية على خطوات أبعد من ذلك، ربما تنتهي إلى قطع تام في العلاقات الدبلوماسية مع فرنسا.