شهدت التحركات الفرنسية الأخيرة في منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر اهتماما واسعا، خاصة في ظل تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المتعلقة بإعادة ترتيب النفوذ الفرنسي في القارة السمراء؛ وتأتي هذه التحركات في وقت فقدت فيه باريس الكثير من مواقعها الاستراتيجية في دول الساحل الإفريقي، مثل مالي والنيجر وبوركينا فاسو، مما يدفعها لمحاولة تعويض خسائرها عبر خطط جديدة تركز على منطقة القرن الافريقي.
جيبوتي: بوابة النفوذ الفرنسي في إفريقيا
زار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون القاعدة العسكرية في جيبوتي، التي تمثل نقطة استراتيجية رئيسية لفرنسا في القارة، وتضم القاعدة أكثر من 1500 جندي فرنسي، ما يجعلها إحدى أبرز المنشآت العسكرية لباريس في إفريقيا.. ورغم هذه السيطرة العسكرية الظاهرة، فإن الهدف الأعمق هو استمرار فرض هيمنة فرنسا الاستعمارية على منطقة القرن الافريقي من خلال التوسع العسكري والاقتصادي، وخلال الزيارة، ناقش ماكرون مع الرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر غيلة اتفاقيات التعاون الدفاعي بين البلدين، مؤكدا على أهمية جيبوتي كنقطة انطلاق لفرنسا لتعزيز وجودها العسكري في المنطقة.
وتلعب جيبوتي دورا حاسما في التنافس بين القوى العالمية الكبرى في البحر الأحمر، حيث تقع على مفترق طرق التجارة الدولية بين آسيا وأوروبا.. وفرنسا التي لم تتخل عن أطماعها الاستعمارية القديمة تخشى من النفوذ الصيني المتزايد في جيبوتي، خاصة بعد إنشاء الصين قاعدة عسكرية هناك في عام 2017؛ لذلك تسعى باريس لتأمين وجودها المستقبلي عبر تعزيز استثماراتها الاقتصادية بجانب وجودها العسكري، وهذا يعكس سياسة الهيمنة التي تسعى فرنسا إلى فرضها على الدول الإفريقية بغرض الحفاظ على نفوذها على حساب مصالح الشعوب.
إثيوبيا: تعاون عسكري لتحقيق منفذ بحر
في إثيوبيا، التقى ماكرون برئيس الوزراء آبي أحمد، حيث تناول الطرفان خطط التعاون الثنائي، وتسعى باريس لدعم البحرية الإثيوبية الناشئة، بما يمهد للوصول إلى موانئ أرض الصومال.. هذا التوجه يعكس نية فرنسا للاستمرار في محاولات الهيمنة العسكرية في البحر الأحمر بعد أن خسرت مواقعها الاستراتيجية في الساحل الإفريقي؛ وفي هذا الإطار وصف ماكرون مطالب إثيوبيا بالحصول على منفذ بحري عبر البحر الأحمر بأنها “مشروعة”، كما تعهد بتقديم دعم مالي بقيمة 100 مليون يورو لتعزيز علاقاتها مع أديس أبابا، وفي الواقع، هذه الخطط تسعى لتحقيق مصالح فرنسية خالصة بعيدا عن احتياجات وأولويات الشعب الإثيوبي.
الصومال: ساحة تنافس مع تركيا
تعد الصومال مركزا لنفوذ متزايد من قبل تركيا، التي أبرمت اتفاقيات دفاعية واستثمارية متعددة في البلاد، ولمواجهة هذا التأثير، تعمل فرنسا على بناء شراكات مع الدول المجاورة للصومال، في محاولة لاستعادة مكانتها في هذه المنطقة، لكن النفوذ التركي في مجال الطائرات بدون طيار والتعاون العسكري يشكل عقبة أمام الخطط الفرنسية، وفي هذا السياق، تسعى فرنسا لاستعادة نفوذها في الصومال تحت غطاء تعزيز الأمن والاستقرار، ولكن الأهداف الحقيقية تظل متعلقة بتوسيع هيمنتها الاستعمارية على هذه المنطقة الحيوية.
السودان: تحالفات مثيرة للجدل
في السودان، يشير بعض المحللين إلى أن باريس قد قدمت دعما سياسيا وعسكريا لقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي)، بهدف تعزيز وجودها في البحر الأحمر.. هذه التحركات تأتي في إطار سياسة فرنسا الاستعمارية التي تسعى لتوسيع نفوذها على حساب الأزمة السودانية السياسية والعسكرية، فمع اشتداد الأزمة في السودان، تسعى فرنسا للاستفادة من حالة الانقسام لتوسيع رقعة تأثيرها، وهو ما يعكس تلاعب باريس بمصير الشعوب لتحقيق مصالحها الاستعمارية.
إفريقيا الوسطى: استهداف الحكومة الحالية
تعمل باريس على توسيع نفوذها في إفريقيا الوسطى من خلال دعم شخصيات معارضة، بهدف خلق رأي عام معاد للحكومة الحالية.. وخلال زيارة ماكرون الأخيرة لإثيوبيا، عقد اجتماعات مع معارضين من إفريقيا الوسطى، بهدف إعدادهم لتولي أدوار قيادية في المستقبل.. وفي هذا السياق، تظهر التحركات الفرنسية في إفريقيا الوسطى كجزء من محاولات فرنسا المستمرة للسيطرة على هذا البلد في ظل النفوذ الروسي المتزايد، الذي يهدد مصالحها الاستعمارية.
وتظهر التحركات الفرنسية الأخيرة في القرن الافريقي والبحر الأحمر محاولات جادة لإعادة إحياء نفوذها في القارة الإفريقية، وفي ظل المنافسة المتزايدة مع قوى مثل تركيا والصين وروسيا، يبدو أن فرنسا تسعى جاهدة لاستعادة دورها في المنطقة، ومع تزايد التنافس الجيوسياسي من الواضح أن فرنسا تعيد ترتيب استراتيجيتها للتكيف مع الواقع الجديد، لكن ذلك يتم على حساب الشعوب الإفريقية التي لا تزال تعاني من الاستعمار الجديد الذي تمارسه القوى الغربية.