لا شيء في القرار الأخير لمجلس الأمن حول الصحراء الغربية يوحي بأن المجتمع الدولي يسير نحو حل عادل. كل ما في النصّ هو إدارة زمن الانتظار، تمديد بعثة المينورسو لعام آخر، ودعوة إلى مفاوضات جديدة على أساس “مقترح الحكم الذاتي المغربي”، وكأننا نعيد بثّ نفس الشريط منذ عقدين. لهذا، من الطبيعي أن يتعالى داخل جبهة البوليساريو اليوم صوتٌ يقول: لقد جرّبنا طريق السلام، فلنعد إلى طريق البندقية.
ولأننا أبناء الثورة الجزائرية، فالمقارنة بين التجربتين تفرض نفسها: مجاهدو نوفمبر 1954 لم ينتظروا أن تمنحهم الأمم المتحدة إذنًا بتقرير المصير، ولم يتراسلوا مع قوى كبرى تبحث عن مصالحها، بل ردّوا على الاحتلال بنداء الرصاص والبارود، فكتبوا التاريخ بدمهم لا بالحبر البارد في قرارات لا تُنفّذ.
اليوم، يعيش الصحراويون وضعًا مشابهًا من حيث خيبة الأمل في العدالة الدولية. قرارات الأمم المتحدة لا تتجاوز عتبة “الدعوة إلى المفاوضات”، بينما الاحتلال المغربي يوسّع مستوطناته، ويواصل نهب الثروات الطبيعية، ويمارس القمع في المدن المحتلة، تحت غطاء دولي مريب، وتمييع متعمّد لمعنى “تقرير المصير” الذي صار يُختزل في مجرد “حكم ذاتي” تحت السيادة المغربية!
خرافة “الانتصار الدبلوماسي”
ما يروّج له نظام المخزن في إعلامه ليس سوى خرافة نصر دبلوماسي زائف، فالقرار الأممي لم يتحدث عن سيادة مغربية على الصحراء الغربية، ولم يعترف بمقترح الحكم الذاتي كحل نهائي، بل جعله مجرّد قاعدة للتفاوض بين طرفين: المغرب وجبهة البوليساريو، ثم أضاف صراحة أنه “يرحب بأي اقتراحات بناءة من الطرفين”، أي أنه فتح الباب رسميًا أمام مبادرة صحراوية موازية.
ومع ذلك، خرجت صحافة المخزن تتحدث عن “انتصار مغربي تاريخي”! أي نصر هذا إذا كانت بعثة المينورسو — بعثة الأمم المتحدة لتنظيم الاستفتاء في الصحراء الغربية — لا تزال تحمل في اسمها كلمة “الاستفتاء”؟ أي نصر إذا كان مجلس الأمن يمدد مهمتها عاماً كاملاً، رغم أن الرباط ترفض فكرة الاستفتاء أصلاً؟ الحقيقة أن النظام المغربي يعيش حالة تضليل ذاتي وجماعي، يحاول من خلالها تخدير الرأي العام الداخلي وامتصاص غضب الشارع، خاصة جيل الشباب الذي بدأ يكتشف زيف رواية “المغرب الكبير من طنجة إلى الكويرة”.
بين الرصاصة والكرامة
منطق التحرر لا يُقاس بعدد الجلسات في نيويورك، بل بعدد القناعات التي تتشكل في الميدان، وجبهة البوليساريو التي أعلنت وقف إطلاق النار سنة 1991 كانت تراهن على صدق المجتمع الدولي، لكنها اليوم تجد نفسها أمام واقع مختلف: قرارات بلا تنفيذ، ومفاوضات بلا نهاية، ومجتمع دولي بلا ضمير.
هنا يصبح السؤال مطروحًا بجدية: هل يمكن أن يعود الصحراويون إلى خيار الكفاح المسلح؟ ليس لأنهم يعشقون الحرب، بل لأنهم يرفضون الإذلال السياسي. الحرب ليست نقيض السلام، بل أحيانًا طريقٌ إليه، عندما تُغلق الأبواب ويُكسر ميزان العدالة.
في الجزائر، لم يكن 1 نوفمبر 1954 مغامرة، بل خيار الضرورة. نفس المنطق يمكن أن يتكرر في الصحراء الغربية، إذا واصل مجلس الأمن تسويق “الحلول الوسط” التي تعني عمليًا بقاء الاحتلال.
عالم بلا مبادئ
ما يحدث اليوم يُظهر أن العالم لا تحكمه الأخلاق ولا الشرعية الدولية، بل المصالح البحتة. المغرب اشترى دعمه الأمريكي بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، ودفع ثمنًا سياسيًا وأخلاقيًا باهظًا مقابل اعترافٍ لا قيمة قانونية له. أما روسيا والصين، اللتان امتنعتا عن التصويت، فحساباتهما لا علاقة لها بالشعب الصحراوي: موسكو تبحث عن مقايضة في أوكرانيا، وبكين عن غضّ الطرف الأمريكي في تايوان.
في هذا العالم، وحدها الكرامة التي تُنتزع تبقى ثابتة. الشرعية الدولية تتحول إلى ورقة مساومة في يد الأقوياء، بينما الشعوب الواقعة تحت الاحتلال تُطالَب بالصبر حتى إشعار آخر.
الدبلوماسية الصحراوية بين الواقع والمثاليات
صحيح أن جبهة البوليساريو أرسلت في 23 أكتوبر رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة، تتضمن اقتراحات بناءة حول الحل السياسي، لكن التجربة أثبتت أن القرارات الأممية بلا إرادة تنفيذية تظل حبراً على ورق. لذلك، من المشروع أن تفكر الجبهة في إعادة ترتيب أدواتها: تصعيد سياسي ذكي، مقاومة شعبية ميدانية، وربما استراتيجية مسلحة مدروسة تُعيد فرض الملف على أجندة العالم.
الجزائر، التي تعرف جيدًا معنى التحرر، لا تُملي على الصحراويين خياراتهم، لكنها تدرك أن الحرية لا تُطلب أو توهب بل تُنتزع انتزاعاً. لقد اختارت الجزائر الشرف على التطبيع، والثبات على المبادئ على حساب المصالح الآنية، وهذا بحد ذاته انتصار معنوي وسياسي، حتى وإن كانت بعض القوى تحاول تجاهله.
إن من يراقب أداء جبهة البوليساريو اليوم يرى أنها أمام لحظة مفصلية تشبه إلى حد بعيد ما عاشه الثوار الجزائريون في خريف 1954: انسداد سياسي، خيانة دولية، وصبر بلغ مداه. آنذاك، كان الجواب هو الرصاصة الأولى. واليوم، قد يكون الجواب هو القرار الجريء: العودة إلى خيار المقاومة بكل أشكالها، لتذكير العالم بأن الشعوب لا تُمحى من الجغرافيا بقرارات فوقية ولا بشراء الذمم.
العالم يراهن على تعب الصحراويين، لكنهم أثبتوا أنهم، مثل الجزائريين بالأمس، لا يتعبون من الحلم بالحرية، ولا ينسون أن الاستقلال لا يُمنح، بل يُنتزع.
