لماذا لا تُصدّق أفعالُ نتنياهو أقوالَه بخصوص اعتراف الكيان الصهيوني بـ “مغربية الصحراء”؟

منذ التوقيع على اتفاق التطبيع بين المغرب وإسرائيل، في 10 ديسمبر 2020 بوساطة أمريكية، وإلى غاية اعترافه الملتبس بـ “مغربية الصحراء” في 17 يوليو 2023، أخذ نتنياهو وقتا طويلا في الممطالة والمراوغة حتى يستجيب لمطالب المغرب بأن ترّد إسرائيل على اعترافه بها اعترافاً في المقابل بـ “مغربية الصحراء”.

ورغم أن اتفاق أبراهام في نسخته المغربية، تحت رعاية إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، لم تُلزم إسرائيل بشرط الاعتراف بمغربية الصحراء حتى تدخل اتفاقيات التطبيع حيز التنفيذ، إلا أن السلطات المغربية لم تتوان في مطالبة الجانب الإسرائيلي بهذا الاعتراف، الذي كانت تنظر إليه كتحصيل حاصل للتحالف الاستراتيجي والشامل بين الجانبين، في المجالات العسكرية والأمنية والاقتصادية والتجارية والدبلوماسية، وكإجراء آلي، فمادام المغرب قد اعترف بسيادة إسرائيل على ما تبسط سيطرتها عليه من أراضٍ فلا مندوحة من أن تعترف هي الأخرى بسيادة المغرب على ما يبسط سيطرته عليه من أراض.

ومن هذا المنطلق ظلّ تطبيع المغرب مع الكيان الصهيوني، رغم توسعه في الجوانب العسكرية عبر تبادل الزيارات بين كبار القادة العسكريين من الجانبين والتوقيع على صفقات أسلحة، مشوبا بالحذر في شقّه الدبلوماسي، حيث لم يرق التمثيل الدبلوماسي بين الجانبين إلى مستوى تبادل السفراء، وظل واقفا عند حدود إقامة مكتب اتصال في الرباط وآخر في تل أبيب، ولعل نقطة اعتراف إسرائيل بمغربية الصحراء كان لها الثقل الأكبر في رسم هذا المشهد الدبلوماسي المبتسر.

ثمّ جاءت أحداث طوفان الأقصى التي أشعلت نيران الحرب بين كتائب المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال، لتؤجج مشاعر الشارع المغربي وتؤلّبه ضد القصر الملكي وحكومته، وتدفعه للمطالبة بوقف اتفاقيات التطبيع وإلغائه وطرد ممثل الكيان الصهيوني في الرباط وغلق مكتب الاتصال،

وقد جاء اعتراف إسرائيل بـ “مغربية الصحراء” بطريقة ملتبسة، ليعكس نوعا من عدم اليقين في قرار من هذا الحجم، إذ أنّ تقارير صحفية مغربية ذكرت أن الديوان الملكي المغربي أعلن في 17 يوليو/ تموز 2023 أنّ الملك محمد السادس تلقى رسالة من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو “تتضمن قرار دولة إسرائيل  الاعتراف بسيادة المغرب على أراضي الصحراء الغربية “، ونقلت وكالة رويترز عن مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي قوله إنّ نتنياهو يؤكد التفاصيل الواردة في إعلان حكومة المغرب عن اعترافه بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية.

ورغم أن البيان الذي تداولته وسائل الإعلام المغربية أشار إلى أن نتنياهو أكد “أن موقف بلاده هذا سيتجسد في كافة أعمال ووثائق الحكومة الإسرائيلية ذات الصلة”، إلّا أنّ تصرّفات نتنياهو مع “مغربية الصحراء” كانت تناقض هذا الاعتراف، إذ أنّه وفي مناسبات عدّة ظهر على الشاشة وخلفه أو أمامه خريطة المغرب منقوصة من الصحراء التي سبق وأن اعترف له بسيادته عليها.

وبغض النظر عن كون البيان المغربي الذي كان مغرقا في التفاؤل إلى حدّ أنه أكّد أن إسرائيل تدرس “فتح قنصلية لها بمدينة الداخلة (الواقعة في الصحراء الغربية) في إطار تكريس قرار الدولة هذا”، فإن نتنياهو تجاهل كلّ هذا عندما ظهرت، في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي،خريطة تتضمن حدودا فاصلة بين المغرب والصحراء على جدار مكتبه، خلال استقباله نظيرته الإيطالية جورجيا ميلوني.

ومع أنّ وزارة الخارجية الإسرائيلية نفت، على إثر تداول هذه الخريطة المبتورة من الصحراء، التي أثارت سخط الرأي العام والإعلام المغربي، وجود أي تغيير في الموقف الرسمي لتل أبيب بشأن اعترافها بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، إلّا أن نتنياهو عاد مجدّدا ليثير حفيظة المغاربة ويصدمه من جديد بخريطة أخرى تُظهر المغرب دون صحراء.

وقد أثار رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، غضب وحنق المغاربة الذين أعادوا إلى الواجهة خطوة التطبيع مع إسرائيل، مطالبين بضرورة التراجع عن هذا القرار، بسبب ظهوره في برنامج حواري فرنسي، حاملا خريطة العالم العربي تُظهر الصحراء الغربية مفصولة عن المغرب، فما كان من مكتب رئيس الوزراء إلا أن يسارع للتأكيد في بيان نشره بالعربية على أن “إسرائيل بقيادة رئيس الوزراء نتنياهو اعترفت رسميا بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية في العام 2023″، مبررا لجوء نتنياهو إلى إشهار الخريطة المثيرة للجدل على أنها “خريطة قديمة قد قدمت إلى رئيس الوزراء لحظات قبل بدء مقابلته مع قناة فرنسية”.

وبين الحادثتين والاعتذارين تظهر قصدية فعل نتنياهو جلية، لتطرح تساؤلا منطقيا حول الدافع من وراء أن تكون الصحراء بالنسبة لإسرائيل “مغربية” بالقول “غربية” بالفعل، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن نتنياهو لم ينفذ وعده بفتح قنصلية لإسرائيل بمدينة الداخلة.

ومن الواضح جدا أنّ مسائل الاعتراف بسيادة الدول على أقاليم متنازع حولها، مرتبط بمسائل القانون الدولي ومواثيق الأمم المتحدة، التي تنظر إلى النزاع في الصحراء الغربية على خلاف ما يُظهره منظار محمد السادس، في تأكيده على أن المغرب ينظر للدول وفق نظرتها لـ “مغربية الصحراء”، إذ ترى الأمم المتحدة، التي أدرجت الصحراء الغربية في قائمة الأمم المتحدة للأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي منذ عام 1963، «الحق غير القابل للتصرف لشعب الصحراء الغربية في تقرير المصير والاستقلال، وفقاً لميثاق الأمم المتحدة وميثاق منظمة الوحدة الأفريقية وأهداف قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 1514 وشرعية نضالهم من أجل ضمان التمتع بهذا الحق».

إنّ هذا الوضع القانوني يساعد كثيرا نتنياهو على الاعتراف بـ “مغربية الصحراء”، فهو وضع مشابه جدا لما توجد عليه القضية الفلسطينية، التي تنتظر هي الأخرى دورها في أدراج الهيئة الدولية حتى يتم حلّها بإقامة دولة فلسطينية مستقلة، وهذا ما ترفضه إسرائيل فقد صوت الكنيست بغالبية واسعة في21 فبراير/شباط الماضي لصالح قرار اقترحه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو ضد أي “اعتراف أحادي الجانب بدولة فلسطينية”، فما الذي يمنعه يا ترى من ألّا يعترف للمغرب بسيادته على الصحراء؟

لفهم هذا السلوك الذي يبدو غريبا ومتناقضا علينا أن نضعه في سياقه العام، أي أنّنا لا ينبغي أن نقصره على النظرة الجزئية لتطبيع المغرب علاقاته مع إسرائيل، فالأمر يقتضي أن نبحث في كيف تصرّفت إسرائيل مع الفلسطينيين أنفسهم خلال 30 سنة أو أكثر من التطبيع، وهل تحقّقت الوعود الإسرائيلية وما إذا أوفى بها الساسة الصهاينة، ثمّ بعد ذلك نسحب هذه النتيجة ليس فقط على تطبيع المغرب، بل على تطبيع جميع الدول العربية حتى نخرج بقاعدة سلوكية تجعلنا نتنبأ بما ستكون عليه الخطوات التي سيتبعها الكيان الصهيوني في علاقاته مع العرب.

لقد بنى الساسة الإسرائيليون علاقاتهم مع الفلسطينيين على أساس من المماطلة والتسويف والأكاذيب والخداع والمراوغة وتعليق الحلول، من أجل كسب الوقت بما يتيح لهم فرض واقع جغرافي وديمغرافي في صالح دولتهم، وبما يساعدهم على ضم المزيد من الأراضي الفلسطينية التي تم تفتيتها وإنشاء المستوطنات ومحاولة إغراء اليهود عبر العالم لتوطينهم في إسرائيل في مقابل تهجير الفلسطينيين.

إنّ هذا السلوك الإسرائيلي هو ما يطبقه نتنياهو مع المغرب في ما يخص اعترافه بـ “مغربية الصحراء”،  حيث أنّه لن يعطي المغرب كلّ شيء مرّة واحدة وللأبد، فهذا إن حدث كفيل بأن يجعل المغرب في غنى عن إسرائيل التي ستفقد جميع الأدوات لابتزازه والضغط عليه مستقبلا، وهو نفس السلوك الذي تتعامل على أساسه مع بقية الدول العربية المطبعة.

وبالعودة إلى طموح المغرب في بسط سيادته على الصحراء الغربية، نجد أنّ مكمن المشكلة في أنّه ربطها بسياق واقعي، في حين أنها مسألة قانونية بحتة، جعله يطلب مساعدة الولايات المتحدة التي فرضت عليه التطبيع مع إسرائيل كمقدمة لتحقيق هذا الطموح، في حين أنّ المغرب الذي يسيطر فعليا على أكثر من 80 بالمائة من الأراضي الصحراوية لا يحتاج إلى اعتراف إسرائيل له بسيادته على الصحراء، بينما قدّم اعترافه بإسرائيل للصهاينة خدمات كبيرة في صراعها مع الفلسطينيين الذين تخلى عنهم العرب، وقد أظهر طوفان الأقصى إلى أيّ حدّ أفادت هذه الخدمات المغربية المجانية إسرائيل في عدوانها على غزة.