مآثر العظماء  / بقلم هاجر ميموني

هاجر ميموني

من المناسبات التّي تفرض نفسها لكي تتوقّف عندها؛ هي المناسبات التّي تتعلّق بالعظماء، وتجد نفسك وأنت تتوقّف عندها أنّك دخلت باحتهم من بابها الواسع، وإذا حاولت أن تأخذ وتردّ في شأنهم، تحتار من أين تبدأ، وممّا بدأت يشدّك بشغف لا ذرع فيه، فالعظماء إذا تناولت حياتهم الشّخصية، لا تكون المجلّدات كفاتا لها، وإذا كتبت عن حياتهم العامّة، فيكون الأمر أكبر من ذلك.

يقترن الاحتفال بيوم العلم عندنا باسم عظيم من عظماء القرن التّاسع عشر، العلامّة المصلح الشّيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله وطيّب ثراه، فلم يكن في البيئة العائليّة التّي ولد وتربّى فيها، أثر يذكر في تكوينه الفكري، ولا شُغل والده وجدّه مناصب في الإدارة الفرنسية، كان له ليغريه على الوثوب لتحقيق مآرب دنيوية زائلة، لقد أعرض عن كل المغريات ورماها في سلّة الباحثين عنها ليعيش هموم أمته، فلم تثبّطه ثابطة عمّا آمن به، فقد أثنى كلّ النّظريات التي تعتدّ بالنّسب والجينات وما شابه في تكوين الشّخصية، وأحالها بهذا الثّني إلى المراجعة. فيصدق فيه قول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه:   “إنّ الفتى من يقول ها أنا ذا  ليس الفتى من يقول كان أبي”.

عرف الشّيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله وطيّب ثراه أنّ المورّث الحضاري للأمّة الجزائرية، مسمدّ كلّه من الدّين الإسلامي ومن لغتها، ولمّا كان تاريخها كذلك، فيصير هو الخلاص الوحيد من وضعها الذّي كانت عليه، وأنّ أيّ جهد لبلوغ شأو بعيدا عن تلك المقوّمات يكون حاله كالظمآن الذّي يجري  في قفر الصحاري ليصل إلى سراب ليرتوي منه.

عرف العلاّمة المصلح عبد الحميد بن باديس رحمه الله وطيّب ثراه الإسلام وفهمه حقّ الفهم، ويقول عن ذلك “لا نجاةَ لنا من هذا التّيه الذّي نحن فيه، والعذاب المنوَّع الذّي نتذوّقه ونقاسيه، إلاَّ بالرّجوع إلى القرآن إلى علمه وهديه، وبناء العقائد والأحكام والآداب عليه، وفهم معانيه والتّفقه فيه، وفي السُّنَّة النّبويّة شرحه وبيانه، والاستعانة على ذلك بإخلاص وصحَّة الفهم والنّظر للعلماء الرّاسخين والاهتداء بهديهم في الفهم عن ربّ العالمين”

ومن منطلق حافزه ودافعه التّجديدي، فهم وعرف  أن ذلك لن يتأتّى من العدم والاستكانة على حال ما حال إليه حال الأمّة، ومن منطلق الفاحص الملمّ بأسباب النهضة، رأى أن أيّ جهد يبذل من أجل النّهضة والتّجديد لابد أن تكون له قاعدته، وأيّ قاعدة تكون المرتكز لذلك،  فقد كان صائبا لمّا رأى أنّ التّعليم هو أساس بناء أيّ وعي والاعتصام به، ولا أجد مصلحا قال ذات مرّة عن التّعليم ما قاله العلامّة عبد الحميد بن باديس رحمه الله وطيّب ثراه حين قال. “إذا علمت ولداً فقد علمت فرداً، وإذا علّمت بنتاً فقد علمت أمة”، لذلك شغل همّه التّعليم واشتغل به.

من أشاح عن مغريات الدنيا، يشيح عن الأسباب التي تؤدي إلى حب الدّنيا، لذلك لم يكن عبد الحميد بن باديس رحمه الله وطيّب ثراه يروم الجري وراءها، وحين فكّر في أمر الأمة لم يرد في خلده تكوين حزب، يركبه ناشدا الزّعامة، بل فكّر فيما هو أبعد من ذلك، حين أسّس رفقة مجموعة من العلماء وهم من خيرة البشر، جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، من أهل الورع في الدّين متحلين بالاعتدال والحكمة، لا يساور تفكيرهم تطرف أو غلو، تقاسموا معه العمل والجهد، وكان أوّل هدف للجمعية التّعليم والتّربية؛ وكان لزاما على الجمعية أن تتمدّد، فانتشرت المدارس والنوادي في جميع أنحاء الجزائر. وكم كان عظيما، حين فكّر في نقل نشاط الجمعية لينتفع منه الجزائريون المقيمون في فرنسا فأنشأت لهذا الغرض النوادي وألحقت بها شيوخا ومعلمين.

لم تكن جمعية العلماء المسلمين، غافلة على وسائل الاتصال، فأنشأت لهذا الغرض، جرائد، تحت عناوين: السّنّة النّبوية المحمدية  ـ الصّراط السّوي ـ البصائر، لتسند عمل ونشاط الجمعية، وتبليغ أكبر عدد من الناس.

إنّ ما فكّر فيه العلامّة عبد الحميد بن باديس رحمه الله وجسّده مع نخبة من العلماء، مشروعا وبرنامجا إصلاحيا، لم يذهب سدا، تقول المصادر التاريخية، أن العلامة الشّيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله وطيّب ثراه والذي خلف الشيخ عبد الحميد بن باديس بعد وفاته في رئاسة جمعية العلماء المسلمين، كان السّند الذي كنّ إليه الطلبة الجزائريون الذّين هاجروا إلى مصر لطلب العلم، وتضيف المصادر؛ أنّه خصّص لأحد الطلبة منحة شهرية  قيمتها خمسة 5 جنيهات، وتتلمذ على يده طالب تلقن دروس الشّحن والوطنية، وما كان هذا الطالب، إلاّ الطالب:  بوخروبة محمد إبراهيم  ـ هواري بومدين ـ مؤسس الدولة الجزائرية بعد الاستقلال رحمه وطيب ثراء، ومن ثمة نعلم يقينا أن العلامة عبد الحميد بن باديس كان متفوقا على بني عصره في التخطيط من أجل الإصلاح.

بقلم/ هـــــاجـــــر ميموني

شارك المقال على :