الخميس 07 أوت 2025
إعلان
ANEP PN2500006

آخر أنفاس فرنسا: رسالة ماكرون تعكس اليأس لا الدبلوماسية… بقلم د. هناء سعادة

نُشر في:
بقلم: د. هناء سعادة
آخر أنفاس فرنسا: رسالة ماكرون تعكس اليأس لا الدبلوماسية… بقلم د. هناء سعادة

 الجزائر- بينما توشك الستارة على أن تُسدل على فصل باهت من رئاسة إيمانويل ماكرون، وبينما تتعثر الجمهورية الخامسة في خطواتها الأخيرة على درب الانحدار، برزت إلى السطح محاولة عبثية لإحياء نفوذ جيوسياسي بات من الماضي، تجسّدت في خطاب لا قيمة له، وجّهه ماكرون إلى شخصية سياسية هامشية هي فرانسوا بايرو. ولعلّ ما يلفت الانتباه أكثر من فحوى الرسالة، هو دلالتها العميقة: ليست إعلانًا لسياسة، بل صرخة ضعف، صادرة عن زعامة فقدت كل ملامح القيادة، وتترأس دولة لم تعد تحظى بالاحترام، ولا تُصغي إلى صوت العقل، ولا تتقن إلا اجترار مبادئ أكل عليها الزمن وشرب.

وما يزيد المشهد سقوطًا هو أن هذه الرسالة تم تسريبها عبر صحيفة “لوفيغارو”، التي لم تعد سوى ظلّ لما كانت عليه، وقد تحولت اليوم إلى بوق يائس لليمين الفرنسي المتطرف، وأداة لإعادة تدوير الأحلام الاستعمارية البائدة.

فها هو ماكرون يحضّ حكومته على اتخاذ “إجراءات إضافية” ضد الجزائر، في تناغم مخزٍ مع خطاب الكراهية والتحريف التاريخي الذي يتبناه برونو ريتايو، المهووس بالجزائر إلى حدّ الهوس المرضي.

وبذلك، يكون قد اختار الاصطفاف إلى جانب من يدفعون بفرنسا نحو هاوية أخلاقية وسياسية، بدلًا من إعلاء منطق الحوار والرؤية المتزنة.

وليس من المبالغة في شيء القول إن الجمهورية الفرنسية قد تحوّلت إلى كيان أجوف، تتجاذبه التناقضات، وينخره التراجع، وفَقَد موقعه المعنوي على الساحة الدولية. لقد غاب الصوت الفرنسي الذي كان يُحسب له حساب، وحلّ مكانه صدى خافت لسياسات فاشلة، تحرّكها النوستالجيا الاستعمارية وتُكبّلها أوهام التفوق الزائف.

وفي المقابل، تبرز الجزائر كقوة دبلوماسية صاعدة، تقف على أرضية صلبة من السيادة والمبدئية والاستقلالية. فهي، بخلاف فرنسا المترددة، تتمسك بمواقف واضحة وشرعية حيال القضايا الدولية العادلة، وعلى رأسها فلسطين والصحراء الغربية، مستندة في ذلك إلى القانون الدولي والشرعية الأخلاقية.

وإذا عدنا إلى المشهد الفرنسي، نجد أن رموزه السياسية من ماكرون إلى لوبان، مرورًا بريتايو وزيمور، لا يزالون يدورون في فلك رؤى فكرية متحجرة، يتغذّون على تحليلات باهتة يقدّمها أمثال كمال داود وزافييه دريونكور، ممن ما زالوا يحنّون إلى منطق السيد والمستعمَر. فهم يتحدثون عن الجزائر بعينٍ لم تُبصر بعد أن زمن التبعية قد انتهى، وأن الجزائر الجديدة قد قطعت حبلها السري مع باريس بلا رجعة، وقررت أن تكتب سياستها الخارجية بلغتها، وفق إرادتها، ومن منطلق سيادتها الخالصة.

إن الجزائر اليوم لا تسمح لأحد بإلقاء المواعظ عليها من منبر دولة تتمسك بعضوية دائمة في مجلس الأمن لم تعد تملك مؤهلاتها الأخلاقية. فالجزائر التي واجهت أعاصير الاستعمار، لا تقبل بعد اليوم أن تكون عاصمتها ظلًا لعاصمة أخرى، ولا أن تُرسم معالم سياساتها بحبر أجنبي.

وفي ضوء ذلك، فإن ماكرون لم يقدّم في خطوته الأخيرة دليل قوة أو حكمة، بل دلائل واضحة على إفلاس سياسي وأخلاقي. فقد أظهر، مرة أخرى، أنه رئيس أخفق في ترك أثر، وفي قيادة شعبه، وفي فهم حقيقة الجزائر الراهنة، التي لم تعد ملعبًا لفرنسا، بل شريكًا ندًّا، يملك قراره ويخط طريقه على الخارطة العالمية الجديدة، بثقة وعزم.

لقد كانت أمامه فرصة، بل لحظة نادرة، لأن يمدّ جسور المصالحة، وأن ينظر إلى الماضي بعين المسؤولية، وأن يفتح صفحة جديدة من الندية والاحترام. غير أنه، كما دأب، اختار الانزلاق إلى مستنقع الابتزاز والتلاعب والتصعيد. وهي اختيارات لا تُثمر إلا عزلة، ولا تخلّف إلا الندم، ولا تُقيّم في ميزان التاريخ إلا بالخزي والخذلان.

وفي صميم هذا الصراع، تكمن عقدة استعمارية فرنسية لم تندمل، ولم تجد بعد من يملك شجاعة مواجهتها. فالغضب الأجوف الذي يحرّك أوساط اليمين الفرنسي، يجد جذوره في عجزه عن تقبّل واقع أن الجزائر لم ولن تنسى، ولم ولن تغفر، ولم ولن تنحني.

إن دماء الشهداء التي سالت من أجل الكرامة والسيادة، لا تزال تؤرق مضاجع نخبة فرنسية مأزومة، تتصارع مع ذاكرة استعمارية تقضّ مضجعها.

لكن الجزائر، الواثقة من نفسها، لا ترتعد أمام هذه التهديدات الفارغة. فقد واجهت ما هو أعتى… وانتصرَت. وستنتصر من جديد، لا بالشعارات، بل بالقانون، ولا بالعداوة، بل بالكرامة، وبالتحالف مع الشعوب الحرة التي تؤمن أن العدل يسمو على القوة، وأن التحرّر أسمى من التبعية.

وفي نهاية المطاف، خسر ماكرون فرصة نادرة لأن يرتقي إلى مستوى رجل دولة. واختار بدلًا من ذلك أن يغرق أكثر في مستنقع الأحقاد الاستعمارية.
فليكن.

الجزائر، المتجذّرة في ذاكرتها الوطنية، والمُندفعة برؤية استراتيجية عابرة للحدود، ستمضي إلى الأمام، ولو وحدها… ولكنها، كما عهدها التاريخ، ستبقى دائمًا منتصرة.

رابط دائم : https://dzair.cc/ixz2 نسخ