في الجزائر، تعوّدنا على نوع معيّن من الصراخ: صراخ لا يظهر حين تتهاوى الأبراج فوق أطفال غزة، ولا حين تُجمع الجثث بالمعاول، ولا حين تُدفن العائلات تحت الأنقاض… بل يظهر فقط عندما تُقرّر الجزائر أن تتصرّف وفق منطق الدولة لا منطق الضجيج. هنا يُفزَع المطبعون، وتنتفض الأبواق، ويصبح من خان أمس “حارسًا للقيم” اليوم.
وفي زمن الغبار الرقمي، صار بعض المطبّعين يوزّعون صكوك النضال كما يوزّع تجار الوهم بضاعة مغشوشة في سوق سوداء، يكفي أن يعلو صوت أحدهم في بثّ مباشر، أو يكتب تدوينة مزركشة بالانفعالات، حتى يعلن نفسه “مقاومًا” و“صوت الأمة”، بينما يوجّه سهام التخوين نحو الجزائر لأنها ـ ببساطة ـ لم تشترِ بطاقة انخراط في نادي “الرجولة الافتراضية” الذي يديره هواة “الخرطي والفستي” والهستيريا السياسية، وهؤلاء أنفسهم، حين ينتقلون من شاشة لأخرى، ينسون أن سجلّهم في التطبيع موثق بالصوت والصورة، وأن تاريخهم من “الركوع الحضاري” لا يحتاج إلى ابن خلدون ليفكّ شفرته.
المفارقة؟ أنّ أغلب من يوزّعون شهادات الوطنية عبر “لايفات” منقولة من عواصم البيع والتطبيع، لم ينطقوا بكلمة واحدة عندما كانت الجزائر تقف وحدها داخل مجلس الأمن، وتخوض معركة سياسية شرسة ضد الهيمنة العالمية، وتسمّي الأشياء بأسمائها بينما كتم الآخرون أنفاسهم خوفًا من غضبة سفارة أو مكالمة من فوق.
لكن ما إن صوّتت الجزائر، مثل 12 دولة أخرى، على مشروع قرار لا تملك عليه سلطة الفيتو ولا عصا الساحر، حتى انتفض “الفرسان الجدد” الذين اكتشفوا فجأة أن لديهم صلة نسب بالقضية الفلسطينية. يا للعجب!
ولأن العالم انقلب رأسًا على عقب، صار من الطبيعي أن يُهاجَم بلدٌ بحجم الجزائر لأنه لا يصفّق أمام الموائد المشبوهة ولا ينخرط في طقوس الطاعة الجديدة، المطلوب ـ في نظر تجار الشعارات ـ أن ترفع الجزائر صوتها وفق الإيقاع الذي تحدده عواصم بعينها، وأن تغضب حين يريدون، وتصمت حين يأمرون، أمّا إذا حافظت على سيادتها، وأدارت مواقفها بثقل الدولة لا بخفّة المؤثّر الافتراضي، فستُتهم بالتقصير.. وربما بالخيانة أيضًا.
وما يزيد المشهد سخرية أن كثيرًا من هؤلاء الذين يشتمون الجزائر صباح مساء لا يخجلون من الدفاع عن مشاريع أجنبية شرقًا وغربًا بكل وقاحة وصَفاقة، وكأنّ الأمر بطولة لا تُمنح إلا لمن يبيع رأسه السياسي في المزاد الدولي، لكن إذا رفع الجزائري رأسه دفاعًا عن وطنه أو جيشه، انطلقت جوقة “الخبراء” لتوبيخه، كأنّ حبّ الوطن صار تهمة، وكأنّ الانتماء جريمة أخلاقية تستوجب الاعتذار، والحق أن الخجل الحقيقي ليس في الدفاع عن الجزائر، بل في أن يتردد البعض في ذلك خوفًا من شتيمة افتراضية يطلقها شخص لا يملك حتى رقمًا في سجلّ الحياة العامة.
أين كانت كل هذه الحناجر الناعقة حين كانت المقاومة نفسها ترحّب بوقف إطلاق النار طلبًا لالتقاط الأنفاس؟ أين كانت حين كان بعض “شجعان التيك توك” يجسّون نبض الاحتلال لتسوية مُذلّة تُمنح مقابل صورة تذكارية؟
اليوم فقط، أصبحت الجزائر “خائنة” في نظرهم الأعمى، فقط لأنها أرادت وقف نزيف الدم، وفتح الممرات الإنسانية، ووضع حدّ للمحرقة التي طحنت شعبًا بأكمله. اليوم فقط، قرّر من طبعوا، وهرولوا، وطلبوا رضا الاحتلال أن يُلقوا علينا دروس المقاومة بينما هم جالسون فوق أرائك الفنادق.
هي وقاحة.. نعم، لكنها وقاحة اعتدنا رؤيتها وسماعها كلما شعرت بعض الأنظمة بأن الجزائر تُذكرها بتاريخها الأسود مع فلسطين، وبأن المواقف لا تُقاس برفع الصوت في المنابر، بل بثمنٍ يُدفع منذ 1967 إلى اليوم، إنّه تاريخٌ محفور في ذاكرتنا، كتبته الجزائر بدم شهدائها الذين سقطوا في غزة قبل سنوات طويلة من “موجة التضامن الافتراضي”.
هؤلاء الذين ظهروا فجأة، نطلب منهم خدمة بسيطة: تحدثوا، نعم… لكن تحدثوا عن غزة، لا عن الجزائر، تحدثوا عن الإبادة والتجويع المتعمّد والحصار، عن المرضى الذين يموتون دون دواء، عن المعتقلين الذين يُعذبون في السجون، عن الأطفال الذين يبحثون عن قطرة ماء.
تحدثوا عن المعابر المغلقة، عن صفقات الغاز والسلاح، عن التحالفات المخزية التي صارت عنوان مرحلة كاملة.
تحدثوا عن عواصمكم.. قبل أن تتطاولوا على بلد لم يغيّر موقعه منذ يومه الأول.
الجزائر، لا تعرف “القفز بين المواقف”، لا تغيّر جلدها بحسب مزاج السوق، ولا تحتاج أن ترفع عقيرتها كل يوم لتذكّر بأنها مع فلسطين ظالمة أو مظلومة، فمن يدفع الثمن منذ عقود.. لا يحتاج شهادة من أحد.
والخلاصة بكل بساطة: حين يتهمون الجزائر بالخيانة، فاعلموا أن الخيانة في مكان آخر، بل من غير المستبعد جدّاً أن تكون في حضنهم، وحين يزايدون علينا، فاعلموا أن المزايدة غطاء لعارٍ يعرفون أنه لن يُمحى، وحين يصرخون، دعهم يصرخون، فالجزائر لا تهتزّ بالصراخ، ولا تُقاس بمقاييس من يصنعون مواقفهم على مقاس من يضعون اللقمة في أفواههم التي لا تعرف سوى النباح.
الجزائر موقف، ومن لا يعجبه الموقف، فليصرخ حتى يُرهق نفسه، أما نحن.. فنراهم ونميّزهم من بين الصفوف جيدًا.. ثمّ نبتسم.
إنّ الجزائر، بتاريخها ومؤسساتها وذاكرة شهدائها، ليست بحاجة إلى شهادة حسن سلوك من أي طرف، لكنها بحاجة إلى أبنائها.. كل أبنائها، وعلى الجزائريين، بمختلف خلفياتهم الفكرية والسياسية والإيديولوجية، أن يكونوا يدًا واحدة حين يتعلّق الأمر بالوطن، وأن ينتفضوا غيرةً عليه مما يُحاك له في الغرف المظلمة ومنابر الخراب، هذا ليس خطابًا إنشائيًا، بل ضرورة وجوديّة في زمن صار فيه شراء الذمم أسهل من شراء اشتراك الأنترنت.
فالذين يتآمرون على الجزائر يعرفون جيدًا أنّ ضرب الداخل أسهل من مواجهتها كدولة، ويعرفون أنّ شتيمة واحدة من مؤثّر مُسَيَّر قد تُربك عقولًا هشّة، وأنّ بثًّا مباشرًا يقتات على التفاهة قد يصنع رأيًا عامًا من لا شيء، ولهذا بالذات، يصبح الدفاع عن الجزائر واجبًا لا يُؤجَّل، وموقفًا لا يُساوَم عليه، ووعيًا لا يُترك لمراهقي “الترند” الذين يعتقدون أنّ الوطنية تُقاس بعدد “اللايكات”.
إنّ الوطن ليس فقاعة رقمية تُنفخ عند اللزوم، ولا رجولة افتراضية تُباع في شكل منشور عصبي.. الوطن جذور، وذاكرة، وحقّ، ومسؤولية، ومن يخجل من الدفاع عنه، سيجد نفسه يومًا بلا أرض يدافع عنها، ولا حتى شاشة يصرخ فيها.
