2 أكتوبر، 2025
ANEP الخميس 02 أكتوبر 2025

الجزائر: بين مناعة الداخل وصلابة الدبلوماسية… قراءة في الاستثناء الجزائري وسط محيط إقليمي ودولي ملغّم… بقلم الدكتور حسان دواجي محمد

نُشر في:
بقلم: الدكتور حسان دواجي محمد
الجزائر: بين مناعة الداخل وصلابة الدبلوماسية… قراءة في الاستثناء الجزائري وسط محيط إقليمي ودولي ملغّم… بقلم الدكتور حسان دواجي محمد

في زمن تتساقط فيه الأنظمة تحت وطأة الاضطرابات، وتتهاوى السياسات أمام زحف الفوضى، تظل الجزائر استثناءً عربيًا وإفريقيًا يثير الانتباه والإعجاب معًا. بلدٌ محاطٌ بتحديات إقليمية ملتهبة، وموضوعٌ لمؤامرات خارجية متعددة الأبعاد، لكنه استطاع أن يحافظ على استقراره، بل وأن يعيد صياغة معادلة قوته الداخلية والخارجية.

إن المتأمل في المسار الجزائري منذ انتخاب الرئيس عبد المجيد تبون في ديسمبر 2019، يدرك أن الجزائر لم تكتفِ بمواجهة المؤامرات، بل حوّلتها إلى فرصة لإعادة بناء العقد الاجتماعي، وترميم الثقة بين السلطة والمجتمع، وترسيخ حضورها في الساحتين الإقليمية والدولية.

1. الإصلاح الداخلي: من أزمة الشرعية إلى عقد اجتماعي جديد

لقد كان انتخاب الرئيس تبون لحظة فاصلة، جاءت في سياق سياسي واجتماعي حساس، أعقب حراكًا شعبيًا واسعًا كشف عن تعطش الجزائريين للتغيير. تميزت المرحلة بخيار المصارحة والشفافية، وهو ما جعل العلاقة بين الرئيس وشعبه تتخذ مسارًا مختلفًا عن العقود السابقة.

فعلى المستوى السياسي:

فقد كُسر احتكار المال الفاسد والزبائنية للعملية الانتخابية، ففُتحت الأبواب أمام الشباب لدخول الساحة السياسية بجدارة، بعيدًا عن المحاباة. وبذلك تم استرجاع جزء مهم من مصداقية المؤسسات المنتخبة، بعدما كانت حكرًا على شبكات ضيقة تتحكم فيها المصالح الخاصة.

أما على المستوى الاقتصادي:

أطلقت الجزائر دينامية جديدة تقوم على تشجيع الشباب على تأسيس مؤسسات مصغرة، ومنحتهم الإطار القانوني والدعم المادي والمرافقة الرسمية، لتتحول المبادرة الاقتصادية إلى خيار استراتيجي لكسر التبعية للاستيراد المدمّر للإنتاج الوطني. إنها بداية تحول تدريجي نحو نموذج اقتصادي يراهن على القدرات المحلية والإبداع الوطني.

على المستوى الاجتماعي:

كانت مناطق الظل رمزًا للغُبن والتهميش لعقود. اليوم تحولت إلى محور استراتيجي للسياسات العمومية، حيث أُطلقت مشاريع استعجالية تحفظ كرامة المواطن وتعيد توزيع التنمية بعدالة. لم يتردد الرئيس في محاسبة المسؤولين الذين عجزوا عن معالجة قضايا هذه المناطق، في سابقة تؤكد جدية التوجه الجديد.

2. المصارحة والشفافية: كسر جدار عدم الثقة

من أبرز سمات هذه المرحلة التواصل المباشر بين القيادة والشعب. أصبح الجزائريون يتابعون رئيسهم وهو يتحدث إليهم عن الأسعار، عن السكن، عن التعليم، عن النقل، وحتى عن تفاصيل يومية تبدو بسيطة، لكنها تشكل جوهر حياة المواطن.

بهذا الأسلوب تم كسر جدار عدم الثقة الذي تراكم لسنوات، وحوصرت الشائعات والمؤامرات التي طالما غذّت فجوة الهوة بين السلطة والمجتمع. لقد أدرك الشعب أن هناك سلطة تتابع يومياته، وهو ما أعاد الثقة إلى العلاقة بين الدولة ومواطنيها.

3. السياسة الخارجية: الثبات على المبادئ والمرونة التكتيكية

لا يمكن قراءة الاستثناء الجزائري دون التوقف عند سياستها الخارجية، التي أثبتت أنها امتداد طبيعي لثورة نوفمبر ولعقيدة التحرر الوطني.

فلسطين: إعادة البوصلة

في وقت اندفعت فيه بعض الأنظمة نحو التطبيع المجاني، كان صوت الجزائر واضحًا: لا تنازل عن القضية الفلسطينية. أعادت الجزائر ترتيب الأولويات عربيا، بفضل مواقف الرئيس تبون وتصريحاته التاريخية، وبفضل رعايتها للمصالحة الفلسطينية التي أنهت قطيعة استمرت عقدين، من الزمن لقد استعاد الفلسطينيون بفضل الجزائر الأمل في وحدة الصف، وعاد العالم الإسلامي للالتفات إلى مركزية فلسطين.

ثم جاءت القمة العربية بالجزائر في نوفمبر 2022 لتشكل منعطفًا تاريخيًا، إذ نجحت الجزائر في إعادة لمّ الشمل العربي بعد سنوات من الانقسام والعجز عن عقد قمة واحدة. هذا الإنجاز الدبلوماسي وحده كفيل بأن يثبت أن الجزائر لم تعد مجرد طرف، بل عادت لتكون قاطرة عربية، فقد إختارت الجزائر الفاتح من نوفمبر و هو تاريخ مقدس لإنعقاد القمة لتوصل فكرة أن بلد الثورة و الثوار، لا يتنازل عن الحق و العدالة و القضايا المقدسة للأمة.

ومع اندلاع حرب الإبادة في غزة، تحولت الجزائر إلى صوت الضمير العالمي و صوت الحق داخل مجلس الأمن. مواقفها أربكت القوى الكبرى، وأسقطت أقنعة التحالفات المنافقة، حتى اضطرت بعض الدول الكبرى إلى سحب مشاريع قرارات كانت تمر سابقًا دون نقاش. إنه درس في دبلوماسية المبادئ.

في قضية الصحراء الغربية: الثبات على مبدأ تقرير المصير

لم تتزحزح الجزائر قيد أنملة عن دعمها لحق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره. رغم حملات التشويه ومحاولات جارة السوء وحلفائها لتوريط الجزائر في معارك جانبية، بقيت الجزائر ثابتة على خطها التحرري، وفية لتاريخها، مدافعة عن الشعوب المستضعفة في كل المحافل.

4. الجيش والشعب: تلاحم تاريخي كمصدر قوة

لا يمكن لأي مؤامرة أن تنجح في الجزائر ما دام الجيش الوطني الشعبي، سليل جيش التحرير الوطني، متلاحمًا مع شعبه. هذه العقيدة الدفاعية ليست مجرد شعار، بل هي واقع جسّد نفسه في كل الأزمات.

لقد أدرك الجزائريون أن قوة الجزائر لا تكمن فقط في مواردها أو مساحتها الجغرافية، بل في تلاحم جيشها وشعبها. هذا التلاحم منحها حصانة نادرة، جعلتها عصية على الاختراق، رغم محاولات المرتزقة في الداخل الذين وُئدت مشاريعهم في مهدها.

إن الأثر العكسي لمحاولة المساس المشبوهة بمؤسسات الدولة المقدسة لدي الشعب و على رأسها الجيش الوطني الشعبي ، أثبتت ان هذا الوطن متميز و ينفرد بخصوصيات لا يمكن أن يمتلكها إلا شعب صنع ثورة عظيمة و نسج خيوط مجده لوحده و جعل من سيادته تاجا لا يتنازل عليه.

5. الوعي المجتمعي: من الذاكرة الثورية إلى المواطنة الواعية

لقد شكلت هذه التجربة مدرسة سياسية للشباب الجزائري. فالوعي المجتمعي تزاوج مع صدق القيادة، ليصنع مناعة داخلية لا تقل قيمة عن ترسانات السلاح.
فالمواطن الجزائري، الذي يحمل في ذاكرته تجربة ثورة مليون ونصف المليون شهيد، صار أكثر إدراكًا أن الأزمات الخارجية لا يمكن أن تتسلل إلا من ثغرات داخلية. لذلك جاءت سياسة كسر الحواجز البيروقراطية والسياسية منذ 2020 لتكون خط الدفاع الأول ضد المؤامرات، وهو ما يفسر التفاف الجزائريين حول دولتهم.

6. التحديات المستقبلية: كيف يحافظ الاستثناء الجزائري على نفسه؟

رغم النجاحات البارزة، يظل السؤال مطروحًا: كيف تحافظ الجزائر على استثنائها وسط عالم يتغير بسرعة؟
• أولاً، عبر تنويع الاقتصاد والخروج نهائيًا من فخ الريع.
• ثانيًا، بتطوير آليات الأمن الوطني والإقليمي في مواجهة التهديدات العابرة للحدود، خاصة في الساحل وليبيا.
• ثالثًا، بتعزيز الدبلوماسية متعددة الأبعاد، والتمسك بالقرار السيادي المستقل.
• وأخيرًا، بالاستمرار في إشراك الشباب في صياغة المستقبل، باعتبارهم الثروة الاستراتيجية الحقيقية.

الجزائر اليوم ليست مجرد دولة صامدة وسط بحر من الفوضى، بل هي مشروع وطني متجدد قائم على المصارحة والشفافية في الداخل، وعلى الثبات المبدئي في الخارج، وعلى التلاحم التاريخي بين الشعب وجيشه.

لقد أثبتت التجربة الجزائرية أن المؤامرات مهما تعددت وتنوعت لا يمكنها أن تنجح أمام شعب واعٍ، وقيادة صادقة، وجيش وفيّ لتاريخه الثوري. ومن هنا، فإن الاستثناء الجزائري ليس وليد الصدفة، بل هو ثمرة رؤية سياسية عميقة وتجربة تاريخية متجذرة.

رابط دائم : https://dzair.cc/v4l5 نسخ