3 سبتمبر، 2025
ANEP الأربعاء 03 سبتمبر 2025

الجزائر ومعرض التجارة البينية الإفريقية: نحو ريادة جديدة في فضاء الجنوب لتحقيق مزيد من التكامل والاندماج والقطيعة مع الهيمنة

تم التحديث في:
بقلم: أحمد عاشور
الجزائر ومعرض التجارة البينية الإفريقية: نحو ريادة جديدة في فضاء الجنوب لتحقيق مزيد من التكامل والاندماج والقطيعة مع الهيمنة

احتضنت الجزائر بنجاح النسخة الأخيرة من معرض التجارة البينية الإفريقية، الذي يُعدّ أكبر تظاهرة اقتصادية وتجارية في القارة السمراء. وقد سخّرت الدولة الجزائرية إمكانيات ضخمة، مادية ولوجستية وبشرية، لإنجاح هذا الموعد الذي تحوّل إلى حدث قاري بامتياز. فمن البنية التحتية الحديثة التي وُضعت رهن إشارة الوفود، إلى الإجراءات التنظيمية والأمنية المتقنة، مرورًا بالمنصات الرقمية المرافقة والبرامج الموازية من منتديات وورشات، بدا واضحًا أن الجزائر أرادت من خلال هذه التظاهرة أن تعكس صورة بلد قادر على لعب أدوار قيادية في إفريقيا.

الجزائر ومكانتها في القارة

اختيار الجزائر لاحتضان هذه الدورة لم يكن مصادفة، بل نتيجة طبيعية لمكانتها الاستراتيجية كأكبر بلد إفريقي من حيث المساحة، وكمحور جغرافي يربط شمال القارة بجنوبها، وشرقها بغربها. من خلال تنظيم هذا المعرض، أرادت الجزائر أن تترجم طموحها في التحول إلى جسر تجاري وتنموي يربط مختلف الاقتصادات الإفريقية.

لقد شكّل المعرض أيضًا مناسبة لإبراز المقاربة الجزائرية في ما يتعلق بالتكامل الإفريقي. ففي وقت تتعالى فيه الأصوات المطالبة بقطع التبعية الاقتصادية عن القوى الكبرى، قدّمت الجزائر نفسها كفاعل ملتزم بتعزيز التعاون جنوب–جنوب، القائم على الندية والسيادة المشتركة والمصالح المتبادلة. حضور أكثر من ألف شركة من مختلف الدول الإفريقية ومن خارج القارة، إلى جانب العشرات من غرف التجارة والهيئات الاقتصادية، أعطى لهذا الحدث بعدًا يتجاوز الجانب التجاري ليصبح حدثًا سياسيًا واستراتيجيًا.

الإمكانيات المسخرة للنجاح

منذ الإعلان عن استضافة الجزائر لهذا الموعد، تحركت كل مؤسسات الدولة لتوفير الظروف المثالية. تم تجنيد قصر المعارض بالعاصمة، وهو الأكبر في المنطقة المغاربية، مع تحديث بنيته وتوفير مساحات عرض ضخمة مجهزة بأحدث الوسائل التكنولوجية. إلى جانب ذلك، خصصت الجزائر تسهيلات استثنائية للوفود، شملت تسهيلات التأشيرة، وخطوط الطيران المباشرة، وخدمات النقل والإقامة.

ولم يكن الجانب الأمني أقل أهمية، إذ ضمنت السلطات الجزائرية بيئة آمنة لآلاف المشاركين، في وقت يشهد فيه العالم تحديات متزايدة مرتبطة بالإرهاب والجريمة المنظمة. كما سهر المنظمون على توفير منصات رقمية للتواصل بين العارضين والزوار، وتطبيقات ذكية تسمح ببرمجة اللقاءات الثنائية ومتابعة الجلسات العلمية والاقتصادية.

هذه الجهود التنظيمية تعكس إدراك الجزائر أن نجاح المعرض لا يقاس فقط بعدد الزوار أو الصفقات الموقعة، بل بقدرتها على تقديم صورة جديدة عن نفسها كبلد يملك مقومات قيادة مشاريع قارية كبرى.

انعكاسات الحدث على الاقتصاد الجزائري

من الناحية الاقتصادية، يشكل تنظيم المعرض فرصة ذهبية للجزائر لفتح أسواق جديدة لمنتجاتها خارج الفضاء الأوروبي التقليدي. فالسلع الجزائرية، من الصناعات الغذائية والدوائية إلى مواد البناء والمنتجات البتروكيماوية، تبحث عن منافذ جديدة في إفريقيا حيث السوق واعدة وتضم أكثر من مليار نسمة. كما أن اللقاءات الثنائية التي أتاحها المعرض فتحت المجال لعقد شراكات مباشرة بين مؤسسات جزائرية وأخرى إفريقية، بعيدًا عن الوسطاء الأجانب الذين طالما هيمنوا على التجارة البينية الإفريقية.

إضافة إلى ذلك، فإن الجزائر برزت كوجهة استثمارية أمام رجال الأعمال الأفارقة الذين اكتشفوا حجم التطور الصناعي والبنى التحتية التي تتوفر عليها. من الطرق السريعة العصرية، إلى الموانئ الكبرى مثل ميناء الحمدانية قيد الإنجاز، مرورًا بخطوط السكة الحديدية التي تُخطط لربط الجزائر بدول الساحل، كلها مشاريع تؤكد أن الجزائر لا تريد أن تبقى مجرد مصدر للنفط والغاز، بل قطبًا إقليميًا للتنمية والتبادل.

المعرض كأداة للاندماج الإفريقي

تعتبر التجارة البينية الإفريقية الأضعف مقارنة بمثيلاتها في أوروبا أو آسيا، حيث لا تتجاوز نسبتها 15% من إجمالي المبادلات. هذا الضعف يعود إلى غياب البنية التحتية، والتبعية التاريخية للأسواق الأوروبية، وكثرة العراقيل الجمركية والبيروقراطية. من هنا تأتي أهمية المعرض كمنصة عملية لربط الفاعلين الاقتصاديين وتذليل الحواجز.

إن هذا الحدث لا يقتصر على عرض المنتجات، بل يهدف إلى بناء شبكات تعاون وشراكات دائمة تعزز مسار منطقة التجارة الحرة القارية الإفريقية (AfCFTA)، التي تُعد أكبر منطقة تبادل حر في العالم من حيث عدد الدول المشاركة. ومن شأن نجاح هذه المبادرة أن يخلق سوقًا موحدة قوامها أكثر من 1.3 مليار نسمة بإجمالي ناتج داخلي يتجاوز 3.4 تريليون دولار.

الجزائر والتعاون جنوب–جنوب

أحد أهم أبعاد هذا المعرض هو ترسيخ التعاون بين دول الجنوب بعيدًا عن الهيمنة الاقتصادية للقوى الكبرى. فالجزائر التي لطالما تبنت خطابًا داعمًا لحق الشعوب في تقرير مصيرها، تريد اليوم أن تُترجم هذا الخطاب إلى ممارسات اقتصادية تضمن السيادة والتنمية المشتركة.

فالمعارض والمنتديات الاقتصادية التي تجمع الدول الإفريقية ليست مجرد مناسبات تجارية، بل خطوات عملية نحو بناء استقلال اقتصادي جماعي. الجزائر، بتنظيمها لهذا الحدث، بعثت رسالة مفادها أن القارة قادرة على خلق بدائل عملية بعيدة عن التبعية، وأن التنمية الحقيقية لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال تعاون قائم على التكامل، لا التنافس.

مكاسب سياسية واستراتيجية

إضافة إلى المكاسب الاقتصادية المباشرة، فإن احتضان الجزائر لهذا الحدث يعزز مكانتها السياسية داخل القارة. ففي وقت تتسابق فيه قوى إقليمية مثل المغرب وجنوب إفريقيا ونيجيريا على لعب أدوار قيادية، برزت الجزائر كلاعب موثوق يملك رصيدًا تاريخيًا في دعم حركات التحرر، ورؤية واضحة لتعزيز التكامل القاري.

لقد منح المعرض الجزائر فرصة لتأكيد دورها كقوة دبلوماسية واقتصادية قادرة على المبادرة، ولتعزيز صورتها كشريك يُعوَّل عليه في بناء مستقبل القارة. وهو ما قد يفتح لها آفاقًا جديدة في علاقاتها مع الاتحاد الإفريقي، ويقوي موقعها في التفاوض مع الشركاء الدوليين من موقع الندية لا التبعية.

نحو رؤية إفريقية مشتركة

في المحصلة، لم يكن معرض التجارة البينية الإفريقية مجرد حدث اقتصادي عابر، بل كان خطوة استراتيجية في مسار طويل نحو بناء إفريقيا متحررة اقتصاديًا وأكثر اندماجًا. وقد أثبتت الجزائر من خلال نجاحها في تنظيمه أنها مستعدة للاضطلاع بدور مركزي في هذا المسار، مستفيدة من موقعها الجغرافي، وإمكاناتها الاقتصادية، ورصيدها التاريخي.

إن هذا المعرض، بما حمله من نقاشات وصفقات وآفاق تعاون، يرسخ القناعة بأن مستقبل القارة مرهون بقدرتها على تعزيز تجارتها الداخلية وتكاملها الاقتصادي. وإذا ما واصلت الجزائر ومعها بقية الدول الإفريقية على هذا النهج، فإن حلم بناء قارة قوية وموحدة قد يتحول من شعار إلى واقع ملموس، على أسس من السيادة والتنمية المستدامة والتضامن جنوب–جنوب.

رابط دائم : https://dzair.cc/efy4 نسخ