25 أكتوبر، 2025
ANEP السبت 25 أكتوبر 2025

الريفيون ينظمون مسيرة في بروكسل تخليدًا لذكرى والد ناصر الزفزافي وإحياءً لذاكرة حراك الريف

نُشر في:
بقلم: أحمد عاشور
الريفيون ينظمون مسيرة في بروكسل تخليدًا لذكرى والد ناصر الزفزافي وإحياءً لذاكرة حراك الريف

شهدت العاصمة البلجيكية بروكسل، اليوم السبت، مسيرة حاشدة نظّمها نشطاء من الجالية الريفية في أوروبا، تخليدًا لأربعينية الراحل أحمد الزفزافي، والد الناشط المعتقل ناصر الزفزافي، وإحياءً للذكرى السنوية لوفاة محسن فكري، الذي أثارت حادثة مقتله عام 2016 احتجاجات واسعة في منطقة الريف.

وتدفقت إلى بروكسل حشود من أبناء الجالية من مختلف دول أوروبا، من النرويج إلى إسبانيا، للمشاركة في مسيرة رمزية رفعت شعارات تطالب بـ”الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية”، وبـ”إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين في ملف الحراك”.

وأكدت اللجنة المنظمة المستقلة، التي شددت على عدم تبعيتها لأي تنظيم أو جمعية، أن الهدف من المبادرة هو الحفاظ على إبقاء قضية الحراك ومعتقليه حاضرة في الذاكرة الجماعية.

وأُلقيت خلال المسيرة كلمات عدة، من بينها رسالة تضامنية من معتقلي الحراك في سجن طنجة، قرأتها حنان حاكي، شقيقة المعتقل محمد حاكي، ودعت إلى مواصلة النضال السلمي من أجل تحقيق مطالب الحرية والعدالة الاجتماعية.

وعبّر المشاركون عن تمسّكهم بخيار النضال السلمي، مشيرين إلى أن مطالب الحراك المتمثلة في رفع الطابع الأمني عن المنطقة، وتحسين الخدمات العمومية، وتحقيق تنمية منصفة، ما تزال “عادلة ومشروعة” رغم مرور نحو تسع سنوات على اندلاع الاحتجاجات.

واختُتمت المسيرة بدعوات إلى مصالحة حقيقية تقوم على العدالة والاعتراف بالكرامة الإنسانية، مؤكدين أن ملف الريف لم يعد مجرد قضية حقوقية بل بات أيضًا قضية ذاكرة وعدالة وإنصاف.

الريف.. جرح في جسد الوطن المحتل يأبى أن يندمل بتجاهل المخزن

من جديد، يعود صوت الريف من خلف الحدود، من بروكسل هذه المرة، ليذكّر المخزن بأن الذاكرة لا تموت، وأن الجراح لا تندمل بالإنكار ولا بالتجاهل. مسيرة الجالية الريفية في أوروبا، التي خلدت أربعينية الراحل أحمد الزفزافي وذكرت بصرخة محسن فكري، لم تكن مجرد وقفة رمزية، بل كانت صفعة جديدة في وجه سياسة النسيان الرسمي التي تحاول طمس جذور الغضب الشعبي المتجذر في الريف منذ عقود.

ما جرى في شوارع بروكسل ليس حدثًا معزولًا، بل امتداد لصرخة لم تخمد أبداً. لقد خرج الريفيون في أوروبا لأنهم يعرفون أن الوطن الحقيقي لا يُقاس بالجغرافيا، بل بالكرامة. خرجوا لأنهم تعبوا من ظلم القصر ونظامه المخزني، من الوعود المؤجلة، ومن لغة الأمن التي صارت البديل الدائم عن لغة السياسة.

منذ 2017، حين تفجّر “حراك الريف” إثر مقتل محسن فكري سحقًا في شاحنة نفايات، والسلطات المغربية تتعامل مع الريف كما لو كان “ملفًا أمنيًا” وليس جرحًا اجتماعيًا وإنسانيًا مفتوحًا. لم تسأل نفسها لماذا خرج الآلاف إلى الشوارع؟ ولماذا يواصل الشباب حتى في المنفى رفع صور ناصر الزفزافي ومعتقلي الحراك؟ الجواب بسيط: لأن السلطات المغربية لم تسمع يومًا سوى صوتها، ولم ترَ في الريف سوى “منطقة متمردة”، لا مواطنين يطالبون بحقوقهم في العدالة والتنمية والكرامة.

السلطة المركزية في الرباط تتصرّف وكأن الريف ليس جزءًا من الوطن -كما تدعي- بل هامشٌ يجب ترويضه بالعصا. المشاريع الموعودة التي رُوّج لها بعد أحداث الحسيمة لم تكن سوى مسكّنات إعلامية، تمامًا كما كانت لجان التحقيق ووعود “طي الصفحة”. لكن الصفحات لا تُطوى حين تُكتب بالدموع ويُنسى أصحابها في السجون.

اليوم، بعد تسع سنوات على اندلاع الحراك، ما زال معتقلو الريف في الزنازين، وما زالت أمهات الريف ينتظرن أبناءهن، وما زالت الدولة المخزنية تمارس سياسة “التجاهل البارد” وكأن الأمر لا يعنيها. كيف يمكن لما يُفترض به “وطنٍ” يدّعي المصالحة أن ينسى أن عشرات الشباب يقبعون في السجون لأنهم طالبوا بمستشفى وجامعة وفرص عمل؟ أيّ مصالحة هذه التي لا تقوم على الاعتراف والإنصاف والعدالة؟

من المؤلم أن الريف، الذي قدّم آلاف الشهداء في مقاومة الاستعمار الإسباني والفرنسي، يجد نفسه اليوم مضطرًا لمقاومة “الإقصاء الداخلي”. لقد تحوّل التهميش الممنهج إلى عقيدة سياسية تُمارس باسم “الوحدة الوطنية”، بينما الحقيقة أن الوحدة لا تُبنى بالتهديد بل بالعدالة. الدولة التي تخاف من ذاكرة الريف إنما تخاف من مواجهة نفسها.

الزفزافي الأب، الذي شيّعه الريفيون إلى مثواه الأخير بالدموع، لم يكن مجرد والد معتقل سياسي، بل كان رمزًا لكرامةٍ لم تنكسر رغم القهر. رحيله فجّر مشاعر دفينة، وكأن الريف كلّه فقد أبًا آخر من آبائه الرمزيين. أما محسن فكري، فاسمه صار لعنة على كل خطاب رسمي عن “دولة الحقوق”. كيف يمكن أن يتحدثوا عن التنمية وهم لم يعتذروا بعد عن المهانة التي أودت بحياته؟

المؤلم أكثر أن الأصوات التي خرجت في بروكسل اليوم رفعت شعارات “الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية” نفسها التي رفعها الحراك قبل تسع سنوات، وكأن الزمن توقف، وكأن كل تلك السنوات من الاعتقالات والمحاكمات لم تغيّر شيئًا في عقل المخزن. الريف ما زال كما هو: مهمّش، مراقَب، وموصوم بالريبة.

إن المطالبة بإطلاق سراح معتقلي الحراك ليست ترفًا سياسيًا، بل ضرورة أخلاقية ووطنية. فلا يمكن بناء دولة يُريد لها أبناؤها أن تتقدم بسجونٍ مفتوحة وذاكرةٍ مكمّمة. ما يفعله النظام المغربي هو إدارة الغضب لا معالجته، دفنه لا فهمه. لكن التجربة تُثبت أن الريف لا ينسى، وأن ذاكرته أقوى من كل محاولات الطمس.

من المؤسف أن المغرب الرسمي يواصل تعامله مع الريف بمنطق “الأمن قبل الحقوق”، في حين أن كل التجارب أثبتت أن الأمن الحقيقي لا يأتي إلا بالإنصاف. وإذا كانت المنظومة المخزنية التسلطية تخشى من تكرار الحراك، فلتعلم أن القمع لا يمنع الغضب، بل يراكمه حتى ينفجر. والتاريخ في الريف علّم أبناءه أن الصمت الطويل لا يعني الرضى، بل انتظار اللحظة المناسبة للانفجار.

لقد آن الأوان لأن تدرك الرباط أن الريف ليس مقاطعة تابعة، بل قطعة مستقلة. وأن الاعتراف بجرح الريف جزء مهم من العلاج، وأن الذين خرجوا في بروكسل أو الحسيمة أو إمزورن يريدون أن يشعروا باستقلالهم وحريتهم، وليسو مجرد هامشٍ يُستدعى عند الحاجة إلى “الدعاية الوطنية” لنظام المخزن.

رابط دائم : https://dzair.cc/c756 نسخ