ما يحدث اليوم في المغرب ليس مجرد أزمة تعليم ولا “احتقان اجتماعي” كما يصفه الإعلام المروَّض من أبواق المخزن، بل انهيار شامل في بنية الدولة التي تستهلك نفسها لتبقى، وتعيد إنتاج الفساد لتستمر في التحكم. إنّ ما نراه اليوم من احتجاجات الأساتذة، ومن انكسار الروح في المدرسة العمومية المغربية، ليس سوى وجه آخر لمنظومة مخزنية لم تتوقف عن خيانة المغاربة منذ الاستقلال الشكلي إلى اليوم.
فبينما يتحدث وزراء الملك عن “إصلاح المنظومة التربوية” وعن “المدرسة الجديدة”، تتساقط أقنعة الخطاب الرسمي تباعاً: التعليم العمومي في حالة موت سريري، والمدرسون في الشارع يصرخون من أجل كرامة مهنية، والأطفال في القرى يدرسون داخل أقسام تشبه الإسطبلات، والميزانيات تُلتهم في صفقات مشبوهة ومشاريع لا تُرى إلا في نشرات الأخبار.
المنظومة المخزنية حولت المدرسة المغربية إلى حقل تجارب لسياسات نيوليبرالية تخدم الكبار وتدوس الصغار. كل إصلاح يُعلن عنه من الرباط يتحوّل بعد أشهر إلى عبء إضافي على كاهل المعلم والطالب معاً. والنتيجة: نظام تعليمي ينتج جيوشاً من العاطلين والمهمشين، ويعيد إنتاج الولاء بدل التفكير، والخضوع بدل النقد.
لقد فشل “المخزن” في بناء نموذج تنموي كما وعد، لأنه ببساطة لا يريد تنمية تخلق مواطنين أحراراً. يريد رعايا، لا مواطنين. ولذلك يوجّه المال العام نحو مهرجانات التفاهة ومشاريع الواجهة، بينما تظل أقسام المدارس بلا معلمين، والمستشفيات بلا أطباء، والجامعات بلا رؤية. إنّ ما يسمّيه “إصلاح التعليم” ليس سوى عملية تجميل فاشلة لجسد متعفّن، تُدار بالعصيّ بدل الحوار، وبالقمع بدل الكفاءة.
إنّ السياسات الحكومية الحالية لم تأتِ من فراغ، بل هي استمرار لنهجٍ قديم يتغذى من الريع والولاء. المخزن لا يتحمل النقاش، ولا يعترف بالفشل، بل يشيطن الاحتجاج ويعتبر المطالبة بالكرامة مؤامرة. وما بيان “الإصلاح” الذي تصدره الوزارة إلا حجاب لغوي يخفي وراءه واقعاً من التسلط والجبن السياسي.
من المفارقات أن السلطة نفسها التي تُقنع العالم بأنها “تحارب الفساد” هي من تحميه. وأن الحكومة التي تتحدث عن “النهوض بالمدرسة” هي التي دفنت التعليم تحت ركام الشعارات. وكلما ارتفعت الأصوات الحرة للمطالبة بالعدالة الاجتماعية، أرسلت السلطة هراواتها وقضاتها لزرع الخوف بدل الإصلاح.
اليوم، لم يعد الشعب المغربي يصدق حكاية “الانتقال الديمقراطي” ولا “النموذج التنموي الجديد”. لقد فهم المغاربة أن جوهر المشكلة ليس في الوزراء، بل في البنية العميقة للنظام المخزني الذي يقوم على الاستحواذ والوصاية. النظام الذي جعل من الوطن مزرعة للمُوالين، ومن الدولة شركة لتوزيع المناصب على المقربين.
فكيف يمكن الحديث عن “حكم ذاتي” في الصحراء وعن “رؤية ملكية للإصلاح” بينما لا يستطيع المخزن نفسه أن يمنح الكرامة لأبناء هذا الوطن؟ كيف يمكن أن يصدّق العالم وعود سلطةٍ تفشل في تأمين مدرسة نظيفة لطفل مغربي واحد؟
لقد انكشف كل شيء. لم يعد المغاربة بحاجة إلى تقارير المنظمات الدولية ليعرفوا أن دولتهم تُدار بلا عقل ولا ضمير. الحراك الحقيقي اليوم هو في العقول التي ترفض الخضوع، وفي الشوارع التي تتنفس الغضب، وفي جيلٍ جديدٍ يعلن أن زمن الصمت انتهى.
لقد فشل المخزن في إسكات الشعب، كما فشل في تكميم الوعي. سيظل التعليم الجريح مرآة لسلطةٍ تستهلك المال العام وتبيع الوهم. والمغاربة يعرفون أن خلاصهم لن يأتي من إصلاحات تُصاغ في القصر، بل من وعيٍ جماعي يضع حداً لقرونٍ من الخداع المخزني.
