في تصريح غير مألوف بوضوحه وحدّته، فجّر نبيل بنعبد الله، الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية المغربي، نقاشًا مسكوتًا عنه داخل المشهد السياسي المغربي، حين قال صراحة إن قرارات بعض الأحزاب لا تُتخذ داخل هياكلها، بل في “أماكن أخرى”، في إشارة مباشرة إلى تدخل الدولة وأجهزتها في توجيه الحياة الحزبية، بما يفرغ العمل السياسي من معناه ويحوّل الانتخابات إلى مسرحية فاقدة للمصداقية.
بنعبد الله، خلال مشاركته في برنامج “نقطة إلى السطر” على القناة الأولى، لم يكتفِ بالتشخيص، بل وضع إصبعه على جرح عميق: الفضاء العام غير مهيأ إطلاقًا لانتخابات 2026، في ظل استمرار التضييق على الحقوق والحريات، واعتقال شبان على خلفية احتجاجات “جيل زد”، في وقت يُفترض فيه أن تكون الانتخابات لحظة انفتاح سياسي لا لحظة قمع وإقصاء.
حديث الأمين العام لحزب التقدم والاشتراكية كشف أن أزمة السياسة في المغرب ليست أزمة أحزاب فقط، بل أزمة نظام تدبير كامل للحقل السياسي. فحين تُصنع قرارات الأحزاب خارج مؤسساتها، وحين تتحول التزكيات والترشيحات إلى أدوات تحكم من فوق، فإن النتيجة الطبيعية هي عزوف الشباب، وفقدان الثقة، وتحول السياسة إلى فضاء طارد لا جاذب.
الأخطر في كلام بنعبد الله هو اتهامه الصريح للأحزاب المشكلة للأغلبية الحكومية بعدم الرغبة في مشاركة سياسية واسعة في انتخابات 2026، لأنها — بحسب تعبيره — انتخابات “أصحاب الشكارة”. انتخابات يُقصى فيها المرشح النزيه، الشاب أو المرأة، أمام منافس قادر على ضخ 700 مليون أو مليار سنتيم في دائرة واحدة، في ظل صمت رسمي مريب عن المال الانتخابي والفساد السياسي.
وإذا كان هذا الواقع معروفًا لدى عموم المغاربة، فإن الخطير هو ما أشار إليه بنعبد الله بوضوح: أغلب النواب المدانين قضائيًا ينتمون إلى أحزاب الأغلبية، ما يجعل الحديث عن “إصلاح سياسي” أو “نموذج ديمقراطي” مجرد شعارات جوفاء لا تصمد أمام الأرقام والوقائع.
ولم يتردد بنعبد الله في تحميل الدولة مسؤوليتها المباشرة، مطالبًا إياها بـ رفع يدها نهائيًا عن الحقل الحزبي، وترك التنافس السياسي يتم على أساس البرامج والكفاءة، لا على أساس الولاءات والمال والنفوذ. وذكّر بخطوة اتُخذت قبل نحو عشرين سنة حين جرى إبعاد تجار المخدرات عن الانتخابات، داعيًا إلى إعادة هذه المقاربة إذا كان هناك فعلاً من يريد إنقاذ ما تبقى من الثقة في العملية السياسية.
وفي نقده للتجربة النيابية المنبثقة عن انتخابات 2021، أكد بنعبد الله أن الفساد الانتخابي ألحق ضررًا بالغًا بالمؤسسات التمثيلية، وعمّق الهوة بين المواطنين والدولة، محذرًا من أن استمرار هذا النهج سيجعل انتخابات 2026 مجرد إعادة إنتاج للأزمة نفسها، وربما بشكل أعمق.
لكن الرسالة الأهم في مداخلته كانت سياسية بامتياز: لا يمكن اختزال الفساد في المنتخبين فقط، وكأن باقي مفاصل السلطة نظيفة ومعفاة من المساءلة. فحين يُستعمل المال والنفوذ، وحين تُدار السياسة من خارجها، يصبح البرلمان واجهة، وتتحول الديمقراطية إلى ديكور.
كلام نبيل بنعبد الله لا يمكن اعتباره مجرد رأي حزبي معارض، بل شهادة من داخل النظام السياسي للمخزن نفسه، تؤكد أن أزمة المغرب اليوم ليست في ضعف المشاركة فقط، بل في إفراغ السياسة من محتواها، وتحويل الانتخابات إلى سوق، والأحزاب إلى أدوات.
وإذا لم تُلتقط هذه الرسائل بجدية، فإن السؤال لم يعد: كيف نُنظم انتخابات 2026؟
بل: هل ما يزال للعملية الانتخابية معنى أصلاً؟
