في الوقت الذي يواصل فيه الشعب الفلسطيني دفن أحبّته تحت ركام غزة، وفي اللحظة التي ما تزال فيها جرائم الاحتلال تُوثَّق بالصوت والصورة أمام العالم، يقرر نظام المخزن أن يشدّ الرحال إلى ندوة عسكرية ينظمها جيش الاحتلال الصهيوني، في خطوة لا يمكن وصفها إلا بأنها سقوط أخلاقي وسياسي مدوٍّ، وانحراف صادم عن كل ما تبقى من التزامات عربية أو إنسانية أو قانونية. هذه ليست مجرد مشاركة عابرة أو “تفصيلة بروتوكولية”، بل هي تورط مكشوف في عملية تلميع جيش متهم بارتكاب إبادة جماعية، كما وصفتها منظمات أممية ودولية، ويمارس حتى اللحظة تجويع المدنيين، وقصف المستشفيات، واغتصاب الأسرى وتعذيبهم.
ما قامت به الرباط لا يمكن قراءته إلا باعتباره اصطفافاً وقحاً مع الجناة ضد الضحايا. مشاركة المغرب في هذه الندوة ليست موقفاً خارج السياق فحسب، بل هي خرق فاضح لالتزامات دولية صريحة، باعتباره دولة موقعة على اتفاقيات جنيف واتفاقية منع الإبادة الجماعية لعام 1948. فبينما يفترض بالدول احترام القانون الدولي ومعاقبة الجناة، نرى المخزن يمدّ يده لجيش الاحتلال، ويساهم في عملية إعادة تقديمه بصورة “طبيعية” أمام المجتمع الدولي، وكأن دماء الفلسطينيين مجرّد تفاصيل في هامش حساباته.
هذه الندوة لم تُخفِ أهدافها: جيش الاحتلال يريد “إعادة تأهيل” صورته بعد عامين من المجازر. يريد منصة دولية لتسويق عملياته الملطخة بدماء الأطفال، ولإقناع العالم بأنه جيش “مهني” لا عصابة حرب. والمخزن، بكل أسف، اختار أن يكون متطوعاً في خدمة هذه المهمة القذرة، وأن يمنح الاحتلال شهادة مجانية في لحظة كان يفترض أن يصطف فيها مع الشعوب لا مع آلات القتل.
والأدهى من ذلك أن المغرب هو الدولة العربية الوحيدة التي شاركت في هذا الاجتماع. ليس لأن الآخرين جميعهم يمتلكون سجلاً سياسياً أكثر نظافة، بل لأنهم – على الأقل – يعرفون أن الاندماج العسكري العلني مع الاحتلال في لحظة الإبادة هو فضيحة لا تُغتفر. لكن المخزن، الذي فقد منذ سنوات أي بوصلة سياسية أو أخلاقية، يثبت مرة أخرى أنه لا يتصرف وفق إرادة شعبه، بل وفق منطق المقايضة والربح والخسارة في أسواق النفوذ وملفات الابتزاز الدولي.
إن الإرادة الشعبية المغربية واضحة وصريحة، وملأت الشوارع والساحات منذ سنوات: رفض شامل للتطبيع، ورفض أشد للتعاون الأمني والعسكري، ودعم غير مشروط لحق الشعب الفلسطيني في الحرية وتقرير المصير. لكن المخزن، كعادته، يصرّ على تجاهل صوت الشعب، ويستمر في تفصيل السياسة الخارجية وفق منطق الأجهزة لا منطق الأمة، فيجعل من المغرب منصة تُستخدم لتلميع الجريمة لا لمقاومتها.
مشاركة المغرب في هذه الندوة ليست مجرد خطأ سياسي؛ إنها وصمة عار تاريخية، واعتداء على حق الشعب المغربي في أن تُحترم قيمه، واعتداء أكبر على دماء الفلسطينيين التي يحاول الاحتلال تبييضها عبر مثل هذه المحافل. وعندما تختار دولة أن تمنح الشرعية لجيش يدفن العائلات تحت الركام، فهي لا تكتفي بالخيانة السياسية، بل تتحول إلى شريك في الجريمة، ولو رمزياً.
لقد قالت “بي دي إس” ما يجب قوله: المطلوب انسحاب فوري وغير مشروط من هذه الندوة، ومراجعة جذرية لهذه السياسات التي لم يعد يقبلها لا القانون الدولي ولا صوت الشارع المغربي. كما أن على القوى الحيّة في المغرب، من نقابات وجمعيات وأحزاب ومنظمات حقوقية، ألا تكتفي بالإدانة، بل أن تتحرك بقوة لوقف هذا الانحدار الخطير، ولمنع تحويل المغرب إلى منصة دعائية لجيش الاحتلال.
وإلى أن يحدث ذلك، يبقى السؤال معلقاً على عنق المخزن: كم من الدماء يلزمكم كي تتوقفوا عن تلميع صورة سفاكيها؟
