الاثنين 10 نوفمبر 2025

تكوين الأساتذة في الجزائر: مسارات الإصلاح بين الجامعة والميدان ومعايير الجودة التربوية… بقلم أ.د. عمّار بن لقريشي

نُشر في:
بقلم: أ. د عمار بن لقريشي
تكوين الأساتذة في الجزائر: مسارات الإصلاح بين الجامعة والميدان ومعايير الجودة التربوية… بقلم أ.د. عمّار بن لقريشي

في سياق التحوّلات العميقة التي يشهدها النظام التربوي في الجزائر، يبرز ملف تكوين الأساتذة في الأطوار التعليمية الثلاثة ـ الابتدائي والمتوسط والثانوي ـ بوصفه أحد أعقد ملفات الإصلاح وأشدّها حساسية، إذ تتقاطع فيه مقتضيات السياسة التعليمية، وحاجات المدرسة الجزائرية، ومطالب الجودة الأكاديمية، وانتظارات المجتمع من مؤسسة التعليم.

وليس خافيًا أنّ القرارات المتخذة في هذا الباب كثيرًا ما تُستقبل بجدل واسع، يتراوح بين التأييد الحذر والنقد المسؤول، بالنظر إلى ما يخلفه كل خيار من آثار بعيدة على الفعل التربوي ومخرجاته.

وقد جاء قرار وزارة التعليم العالي والبحث العلمي القاضي بإطلاق مسار جديد لتكوين الأساتذة في ملاحق المدارس العليا و نقاط التكوين بالجامعة خطوةً تعيد صياغة العلاقة بين الجامعة والمدرسة، وتستدعي تقييمًا علميًا رصينًا يتجاوز الانطباعات العابرة إلى قراءة معرفية موضوعية، تستحضر تاريخ التجارب السابقة وواقع الممارسة وضرورات المرحلة.

غير أنّه من المهم الإشارة، من باب التحليل الدقيق، إلى أنّ هذا المسار في مرحلته التطبيقية الأولى لم يُكمل سداسيه الأوّل بعد، وهو ما يقتضي التنبيه إلى أنّ أيّ حكم قطعي بشأن مردوديته أو نجاعة بنيته ما يزال متعجّلًا، وأنّ المقاربة العلمية الملائمة هي مقاربة التوصيف والمتابعة لا مقاربة الإدانة أو المصادرة المسبقة.

أولًا: تكوين الأساتذة بين الحاجة المؤسّسية والرهان المعرفي

إنّ الحديث عن تكوين أساتذة التعليم لا ينفك عن رؤية فلسفية لتصوّر الدولة لمهنة التدريس نفسها: هل هي وظيفة تقنية تتطلّب إتقان معارف محددة وإجراءات بيداغوجية؟ أم هي وظيفة ثقافية رسالية تقوم على تكوين العقل قبل المهارة، وتأسيس الشخصية المربّية القادرة على حمل قيم المدرسة؟ إنّ هذا السؤال المركزي هو الذي يحدد طبيعة البرامج وطرائق التكوين وأفق التقييم.

وإذا كانت التجارب الدولية الرفيعة في التربية قد استقرّت على أنّ الأستاذ يُعَدّ ركيزة المنظومة، وأنّ الاستثمار في تكوينه ربحٌ استراتيجي للدولة، فإنّ ذلك يقتضي، في السياق الجزائري، رؤية متكاملة لا تكتفي بتوفير وحدات أكاديمية متفرّقة، بل تنشئ مسارًا تربويًا حقيقيًا متدرّجًا، يتكامل فيه التكوين النظري والبيداغوجي والتطبيقي، ويستجيب، في الوقت نفسه، لخصوصيات البيئة المحلية وتحديات المدرسة الجزائرية.

ومن هذا المنطلق، يمكن التأكيد على ضرورة أن يشمل التكوين مراحل تقييم مرحلية تقيس مدى استيعاب الطالب للمقررات النظرية وتطبيقها في الميدان، وأن يُزوّد بأدوات معرفية وتقنية تساعده على التكيّف مع المتغيرات التربوية، بما في ذلك دمج التكنولوجيا التعليمية والأساليب البيداغوجية الحديثة، لضمان تكوين شامل ومتوازن.

ثانيًا: بين الجامعة والميدان — نحو جسور أوثق

لقد أظهر مسار التكوين السابق في المدارس العليا للأساتذة مكاسب لا يمكن إنكارها من حيث تخصّص الخريجين وارتباطهم المباشر بالمهنة، لكنه واجه كذلك تحديات تتعلق بسقف المناهج، وغياب مرونة التطوير، وعدم قدرة النموذج المؤسسي الواحد على استيعاب الطلب الوطني المتزايد.

وفي المقابل، يقدّم النموذج الجامعي فرصة توسيع قاعدة التكوين والانفتاح على البحث التربوي، شرط ألا يتحوّل إلى مسار شكلي يفقد خصوصية التكوين المهني.

ومن هنا تبرز ضرورة بناء شراكة فعلية بين الجامعة وقطاع التربية، لا تقتصر على إقامة دورات أو توقيع اتفاقيات، بل تستند إلى آليات متابَعة ميدانية، وإشراف تربوي مزدوج، وتقييم أكاديمي مستمرّ، بحيث يصبح الأستاذ المتربّص جزءًا من المنظومة منذ سنواته الأولى في الجامعة، لا متلقيًا نظريًا منقطعًا عن محيطه المستقبلي.

كما يُعدّ تعزيز شبكة الاتصال بين الجامعات والمدارس التجريبية، وربط البحث التربوي بالممارسة، خطوةً ضرورية لضمان انسجام التكوين مع حاجيات المدرسة والمجتمع.

ثالثًا: متطلبات النجاح — الرؤية، الكفاءة، وأخلاقيات المهنة

إنّ ضمان نجاح هذا المسار لا يتمّ بمجرد الإعلان عنه، بل يستلزم تأطيرًا منهجيًا دقيقًا، وتحديدًا معرفيًا لمخرجات كل سنة، وتدقيقًا في شروط الانتقاء والمتابعة، فضلًا عن تكوين المكوّنين أنفسهم، وتوفير فضاءات تربوية تجريبية داخل الجامعة وخارجها.

ومن ثمّ فإنّ المصداقية العلمية لهذا المشروع ستقاس بمدى الالتزام بالمعايير الآتية:

وضوح الرؤية البيداغوجية.

انسجام وحدات التكوين مع حاجات المدرسة.

قدرة التربصات الميدانية على محاكاة الواقع.

المتابعة التقييمية الصارمة البعيدة عن المجاملة الإدارية.

احترام مبدأ تكوين شخصية الأستاذ: علمًا وأخلاقًا ومسؤولية.

ولا يُتصوّر تكوينٌ ناجح دون تعميق الوعي بالقيمة الأخلاقية للمهنة، وإحداث توازن بين المعرفة المتخصصة والثقافة التربوية العامة، وبين الصرامة العلمية والروح الإنسانية الضرورية لبناء علاقة محترمة مع المتعلم والمجتمع.

كما يجب أن تتضمن برامج التكوين ورشات مستمرة لتطوير مهارات التواصل، وحل المشكلات، وإدارة الفصول الدراسية، باعتبارها أركانًا أساسية لكفاءة الأستاذ المستقبلي.

رابعًا: أفق التقييم المرحلي والتطوير المستمر

إنّ بداية هذا البرنامج، رغم حداثتها وعدم إكمالها سداسيها الأول بعد، تُعد فرصة ثمينة لتكريس ثقافة التقييم المرحلي.

فالمراجعة العلمية لا تأتي بعد انتهاء التجربة فقط، بل ترافقها منذ خطواتها الأولى، حتى تُضبط مساراتها وتُصحَّح اختلالاتها في مهدها.

ومن الحكمة التربوية والإدارية أن تُستثمر هذه المرحلة التمهيدية لاستطلاع آراء الطلبة والمكوّنين ومديري المؤسسات التعليمية المستقبِلة، وأن تُعتمد هذه الشهادات جزءًا من آليات الحكم الموضوعي.

كذلك، ينبغي تعزيز استخدام أدوات القياس النوعية والكمية، مثل الدراسات الميدانية، وتحليل أداء المتربصين، واستبيانات الرأي، لتوفير بيانات دقيقة تساعد على تطوير المسار باستمرار وتحسين مردوديته.

وفي ضوء ما سبق، يمكن القول إنّ نجاح مسار تكوين الأساتذة الجديد لا يرتبط فقط بقدرته على توسيع قاعدة التكوين أو تحسين المعرفة النظرية، بل بمدى قدرته على تحقيق انسجام متكامل بين الجامعة والميدان، وضمان أن يصبح الأستاذ خبيرًا تربويًا متفهمًا لواقعه، وملتزمًا بمعايير الجودة، ومسؤولًا تجاه المجتمع والمدرسة.

أ.د. عمّار بن لقريشي – جامعة المسيلة.

رابط دائم : https://dzair.cc/qoju نسخ

اقرأ أيضًا