تعيش الساحة السياسية المغربية واحدة من أسوأ لحظات انكشافها منذ سنوات، بعد أن أجمعت وسائل إعلام محلية ودولية على تأكيد تورّط نحو ثلاثين نائباً برلمانياً في قضايا مالية وقضائية ثقيلة، تتراوح ما بين تبديد المال العام، الاختلاس، الرشوة، التزوير، الإثراء غير المشروع، واستغلال النفوذ.
هذه القضايا، التي أعادت إلى الواجهة سؤال مصداقية المؤسسات التشريعية في المغرب، تشكّل ـ وفق تعبير عدة مراقبين ـ “مرآة صادمة” لما آل إليه الوضع داخل برلمان يُفترض أنه ممثل الإرادة الشعبية.
أجور منتظمة… رغم المتابعات القضائية
منذ بداية تداول هذه الأرقام المثيرة، ركّزت الصحف المغربية مثل Le360، والجريدة، والأيام 24 على نقطة ظلت الأكثر استفزازاً للرأي العام:
نواب متابعون قضائياً، ومع ذلك يتقاضون 36 ألف درهم شهرياً من المال العام دون توقف.
محمد الغلوسي، رئيس الجمعية المغربية لحماية المال العام (HMPP)، كان الأكثر صراحة وجرأة في وصف هذا الوضع “بعُمق الخلل الأخلاقي والسياسي”، مطالباً بوقف صرف الأجور فوراً عن كل نائب تُفتح في حقه متابعات، وبتعديل الإطار القانوني لمكانة البرلماني حتى لا يتحوّل إلى “حصن محمي” لا تُخترق أسواره.
هذه الدعوة أثارت موجة نقاش كبيرة، لا سيما في ظل ما وصفته عدة منابر مغربية بـ “التستر الحزبي” على المتورطين، إذ تغيب أي مبادرات جادة من داخل الأغلبية أو المعارضة لدعم التعليق المؤقت للأجور أو إسقاط العضوية عن النواب محل المتابعات.
تحقيقات متعددة… ومنظومة واحدة
المصادر الدولية بدورها دخلت على الخط. فقد نشرت Jeune Afrique، وهي المصدر الأبرز في هذا الملف، تقريراً يؤكد الرقم نفسه، ويشير إلى أن قضايا الفساد هذه ليست معزولة، بل موزعة على عدة سنوات ومرتبطة بأحزاب مختلفة. أما Nan Media وBladi فقد استعرضا قائمة الاتهامات، معتبرين أن التشابه الكبير بينها يعكس “نسقاً متكرراً” لا مجرد حوادث فردية.
وبحسب AllAfrica وYabiladi، فإن عدد النواب المتابعين قفز بشكل لافت منذ انتخابات 2021، وهو ما يعيد طرح سؤال جوهري:
هل آليات الترشيح داخل الأحزاب المغربية قادرة فعلاً على فرز نخب نظيفة؟ أم أنّ الأمر تحوّل إلى سباق نفوذ يُدخِل البرلمان شخصيات تبحث عن الحصانة أكثر من خدمة الناخبين؟
بطء قضائي يثير الشكوك
في مقابل هذه الضجة، يتحرّك القضاء بوتيرة بطيئة، ما جعل عدداً من المراقبين يتحدثون عن “تريّث غير مفهوم” إزاء ملفات يفترض أن تُعالَج بالسرعة اللازمة لحماية صورة المؤسسة التشريعية.
ومع أن بعض القضايا تم تحريكها فعلاً، إلا أن الشفافية في مسارها لا تزال غائبة، ما عزّز الشعور الشعبي بأن الأمر يخضع لحسابات سياسية أكثر من خضوعه لسلطة القانون.
ومن أبرز ما ركّزت عليه التقارير الحقوقية أنّ البطء القضائي يمنح المتورطين فرصة الاستمرار في مناصبهم وتقاضي أجورهم، بل والتأثير داخل البرلمان أثناء محاكمتهم. وهو وضع نادر الحدوث في الأنظمة الديمقراطية، ويطرح جدية سؤال الفصل بين السلط في المغرب.
صمت رسمي… وغضب شعبي
أمام كل هذه التطورات، يبرز صمت الأحزاب السياسية بشكل لافت. فباستثناء بعض التصريحات المتفرقة، لم تُظهر القيادات الحزبية أي رغبة فعلية في معالجة الأزمة أو فتح نقاش داخلي حول محاسبة المتورطين، ما اعتبرته عدة صحف “تواطؤاً صامتاً” يهدف لحماية شبكات النفوذ داخل المؤسسات.
في المقابل، يتعاظم الغضب الشعبي، وتزداد الأسئلة حول جدوى استمرار برلمان “تلاحقه الفضائح أكثر مما يلاحق ملفات المواطنين”، كما جاء في تعليق نشرته إحدى اليوميات المغربية.
ولم يتردد بعض النشطاء في وصف برلمان المخزن بأنه “ملاذ للمحتمين من القانون”، في إشارة إلى الصورة التي باتت تلتصق بالنواب المتورطين.
فضيحة تعري بنية السلطة
تكشف هذه القضية، بكل تشعباتها، هشاشة البنية السياسية في المغرب، وتظهر بوضوح كيف تسمح منظومة المخزن بإعادة إنتاج نفس دوائر النفوذ والامتيازات، حتى داخل مؤسسة يفترض أنها العمود الفقري للعمل الديمقراطي.
كما تعيد طرح السؤال الأعمق: هل يمكن فعلاً مكافحة الفساد في إطار نظام يسمح باستمرار الإفلات من العقاب؟
المصادر المتنوعة، سواء المغربية أو الدولية، تجمع على أمر واحد: هذه ليست فضيحة عابرة، بل مرآة لبنية سياسية تحتاج إلى إصلاح جذري وشجاع، يبدأ من البرلمان نفسه قبل غيره.
وإلى أن يحدث ذلك، سيبقى المواطن المغربي يتساءل: هل يمكن لمؤسسة يغرق بعض أعضائها في المتابعات القضائية أن تدّعي تمثيل الشعب والدفاع عن مصالحه؟ وهل يمكن لمنظومة تُغطي الفساد أن تطلب من الشارع احترام القانون؟
