لم تكن احتجاجات “جيل زد” التي اجتاحت مدن المغرب منذ أواخر سبتمبر 2025 حدثًا عابرًا، ولا موجة غضب شبابية طارئة كما حاولت الآلة الإعلامية الرسمية تصويرها. لقد كانت – في العمق – مرآةً سياسيةً كسرت الصورة التي رسمتها منظومة المخزن لنفسها منذ عقد، حين روجت لوهم “الاستقرار النموذجي” و”الاستثناء المغربي”. هذا الجيل الجديد لم يخرج إلى الشارع فقط ليصرخ في وجه الغلاء أو البطالة، بل خرج ليقول بصوت رقمي واضح: كفى من تكرار نفس الوصفات البالية التي تُدار بها البلاد منذ الاستقلال.
لقد وُلد “جيل زد” من رحم الخيبة الوطنية التي خلّفها فشل كل المشاريع الإصلاحية المتلاحقة، من “المفهوم الجديد للسلطة” إلى “النموذج التنموي الجديد”. جيلٌ وُعد بالكرامة والفرص، فوجد نفسه في مواجهة منظومة سياسية لا تسمع إلا صدى صوتها. في حين أن كل المؤسسات التي يُفترض أن تمثله – من برلمان وأحزاب ونقابات – تحولت إلى ديكور مملٍ يعيد إنتاج الولاء لا الكفاءة، والجمود لا الفعل.
تختلف حركة “جيل زد 212” عن حراك 20 فبراير في أدواتها، لكنها تشترك معه في جوهره: المطالبة بالكرامة والعدالة ومحاسبة من يبدد المال العام باسم “التنمية”. الفرق الوحيد أن جيل اليوم أكثر وعيًا، وأكثر تحررًا من أوهام الزعامة الحزبية والإيديولوجية. فهؤلاء الشباب لا ينتظرون ترخيصًا من حزب أو توجيهًا من زعيم؛ هم أبناء الإنترنت، يصنعون وعيهم في فضاء رقمي لا تملكه وزارة الداخلية ولا تتحكم فيه التلفزة الرسمية.
لقد أصبحت المنصات الرقمية مثل “ديسكورد” و“تيك توك” ساحات سياسية بديلة، يتبادل فيها الشباب الأفكار وينظمون الاحتجاجات بعيدًا عن مراقبة أجهزة المخزن التي لم تفهم بعد أن الصراع لم يعد في الشوارع فقط، بل في الفضاء المعلوماتي ذاته. وبهذا المعنى، لم يعد الأمن قادرًا على ملاحقة فكرة تُبث في ثانية وتنتشر في كل مكان.
إن ما يقلق النظام في هذا الحراك ليس عدد المتظاهرين، بل طبيعة الوعي الجديد الذي يحمله هؤلاء الشباب. وعي يربط بين الفقر والفساد، بين غلاء المعيشة وتبذير المال العام، بين خرافة “الدولة الاجتماعية” وحقيقة البرلمان الذي تلتهم ميزانيته مئات الملايين دون أثر في حياة المواطنين. فكيف يطلب من شبابٍ عاطل أن يحترم مؤسساتٍ تصرف على نائب واحد أكثر من مليون ونصف درهم سنويًا؟ كيف يقنعونه بالوطنية وهم يشاهدون أموال الضرائب تُهدر على سيارات فارهة ومهمات خارجية بينما المستشفيات والمدارس تنهار؟
لقد أثبتت احتجاجات “جيل زد” أن المغرب يعيش أزمة سياسية بنيوية تتجاوز حكومةً أو وزيرًا. فالأحزاب صارت بلا مشروع، والنقابات بلا قاعدة، والبرلمان بلا سلطة حقيقية. أما الدولة، فقد اختارت الاختباء وراء خطاب “الأمن والاستقرار”، ظنًا منها أن القمع يمكن أن يطفئ الأسئلة الكبرى التي تطرحها الأجيال الجديدة: أين العدالة؟ أين تكافؤ الفرص؟ من يحاسب من ينهب خيرات البلد؟
إن السلطة التي تراهن على شراء الصمت عبر الملاعب والمهرجانات لا تدرك أن كرة القدم لم تعد أفيون الشباب كما كانت. هؤلاء الذين قاطعوا مباريات المنتخب ورفضوا التهليل لتنظيم كأس العالم، فعلوا ذلك عن وعي، لأنهم أدركوا أن بناء الملاعب الضخمة لن يخفي انهيار المدارس والمستشفيات. لقد أرادت الدولة تحويل الرياضة إلى أداةٍ للولاء، فإذا بها تتحول إلى رمزٍ للسخرية من سياسات التلميع الفارغة.
في الجوهر، يعكس هذا الحراك فشل مشروع الدولة في التحديث السياسي الحقيقي. فبدل بناء ديمقراطية تشاركية تُعيد الثقة في المؤسسات، جرى الاكتفاء بتعديلات شكلية في الدستور والانتخابات، دون مساس بجوهر السلطة المركّزة في يد المخزن. أما الحكومة، فليست سوى واجهة تنفيذية لتصريف القرارات الكبرى، بينما يُترك البرلمان لتجميل الصورة في نشرات الأخبار. وهكذا تحوّل العمل السياسي إلى مسرح هزلي، يُؤدي فيه الجميع أدوارًا محفوظة سلفًا، فيما يتزايد الإحباط الشعبي جيلاً بعد جيل.
احتجاجات “جيل زد” لم تُعلن فقط رفضها للسياسات الاقتصادية، بل عرّت عجز المنظومة السياسية كلها عن إنتاج معنى جديد للمواطنة. فحين يُعتقل الشباب لمجرد تعبيرهم عن الغضب، وحين تُشيطن أصواتهم في الإعلام، فإن الرسالة واضحة: “تكلّموا كما نشاء، لا كما تشاؤون”. لكن هذا الجيل لم يعد يقبل الأوامر من فوق، ولا يخاف من لغة التهديد. لقد وُلد في زمن لم تعد فيه الهيبة تُصنع من الخوف، بل من الصدق والكفاءة.
لقد آن الأوان لأن يدرك المخزن أن ترويض الأجيال بالوعود لم يعد ممكنًا. فجيل “زد” ليس مجرد شبابٍ غاضب، بل ضميرٌ جديد للمغرب، ضمير يطالب بإعادة توزيع السلطة والثروة والمعنى. وإذا استمر تجاهله، فإن القادم لن يكون مجرد احتجاجات محدودة، بل هزّة سياسية واجتماعية كبرى تُغيّر قواعد اللعبة بأكملها.
إن الخطر الحقيقي ليس في “جيل زد”، بل في نظامٍ يرفض أن يتغير.
