لم تكن فاجعتا فاس وآسفي حدثين عرضيين ولا كوارث طبيعية مفاجئة كما تحاول حكومة المخزن الإيحاء، بل كانتا النتيجة المنطقية لمسار طويل من التجاهل، والإنكار، والاستخفاف بأرواح المواطنين. فحين ينهار البناء، لا تسقط الحجارة وحدها، بل تسقط معها منظومة كاملة من الادعاءات الرسمية حول “الدولة الاجتماعية” و“الحكامة الجيدة”.
ما كشفه النقاش البرلماني الأخير في المغرب ليس جديدًا بقدر ما هو فاضح. التحذيرات كانت قائمة، والأرقام كانت معروفة، والبرلمان دق ناقوس الخطر منذ سنوات، محذرًا من أن مئات الآلاف من المغاربة يعيشون تحت تهديد مباشر داخل منازل آيلة للسقوط. ومع ذلك، اختارت حكومة المخزن أن تصم آذانها، وأن تؤجل، وأن تدبر ظهرها لمسؤوليتها الأساسية: حماية الحق في الحياة.
سياسيًا، لا يمكن فصل هذه الفواجع عن منطق المخزن في إدارة الشأن العام؛ منطق يقوم على ردّ الفعل بدل الاستباق، وعلى البلاغات بدل القرارات، وعلى تحميل الطبيعة ما هو في جوهره فشل إداري وهيكلي. فحين تمطر السماء، لا ينهار الحجر فجأة، بل ينهار تراكم سنوات من الإهمال، وغياب الصيانة، وفساد الصفقات، وانعدام المراقبة.
الأكثر عبثية في هذا المشهد هو صندوق التعويض عن الكوارث، الذي تحوّل من أداة للحماية الاجتماعية إلى رمز للانفصال التام بين النص القانوني والواقع المعيشي. شروط “تعويض” لا تتحقق إلا نظريًا، ومعايير زمنية تكاد تكون خيالية، وكأن المواطن مطالب بالانتظار أسابيع تحت الأنقاض حتى يُعترف به كضحية. هكذا لا تصبح الكارثة استثناءً، بل قاعدة تُدار بالقانون.
قبل ذلك كله، تطرح فاجعتا فاس وآسفي سؤال المسؤولية السياسية الغائبة. فلا استقالات، ولا مساءلات حقيقية، ولا اعتراف رسمي بالأخطاء. فقط خطابات مطمئنة، ووعود مؤجلة، ومشجب دائم اسمه “الظروف”. هذا النمط من الحكم لا يرى في المواطن المغربي صاحب حق، بل رقمًا في إحصاء بعديّ، يُستدعى فقط لتجميل البلاغات أو لتلقي العزاء.
إن أخطر ما في هذه الوقائع ليس عدد الضحايا وحده، بل اعتياد الدولة على الموت القابل للتفادي. فحين تتحول الفاجعة إلى حدث موسمي، ويصبح الحديث عن المحاسبة ترفًا سياسيًا، نكون أمام دولة لا تخفق فقط في التسيير، بل في تعريف دورها الأخلاقي.
ما وقع في فاس وآسفي لا ينبغي أن يُنظر إليه عل أنه قدر لا يمكن تجاوزه، بل نتيجة مباشرة لاختيارات سياسية، وحين تغيب الوقاية وتحضر المراوغة، يصبح الصمت الرسمي شراكة في المسؤولية. وفي دولة تحترم نفسها، لا يُقاس النجاح بعدد التصفيقات داخل البرلمان، بل بعدد الأرواح التي لم تسقط لأن الدولة قامت بواجبها.
