في زمن تتقلب فيه الموازين الدولية، وتتكاثر فيه محاولات زعزعة استقرار البلدان الصامدة، تبرز بين الحين والآخر أصوات مأزومة تحاول الادعاء بأنها قادرة على شق صفّ شعبٍ وُلد من رحم الثورة، وتربّى على صلابة التاريخ، وتحصّن بوعيٍ جمعيّ لا يخترقه الوهم.
وفي مقدمة هذه الأصوات، يطلّ فرحات مهني من باريس، محملًا بخطابات جوفاء، محاولًا إقناع العالم —أو إقناع نفسه— بأن “مشروعًا انفصاليًا” هشًا يمكنه أن يهدد وحدة وطنٍ بنته دماء الشهداء عبر قرون.
إعلان مهني عن تنظيم “احتفالية استقلال القبائل” في 14 ديسمبر 2025 ليس حدثًا سياسيًا ذا شأن، بل هو تجلٍّ جديد لسياسة الهروب من الواقع، ومحاولة لإحياء مشروع سقط قبل أن يوجد، لأنه ببساطة مخالف لطبيعة القبائل نفسها، ولروح الجزائر التي لا تُباع ولا تُقسّم.
أولًا: مشروع انفصالي بلا جذور ولا قاعدة شعبية
من يُمعن النظر في مسيرة “ماك” يدرك أنّ هذا التنظيم لا يملك أدنى مقومات الوجود داخل المجتمع القبائلي.
لا حضور جماهيري.
لا شرعية سياسية.
ولا أرضية اجتماعية.
هو تنظيم قائم على التهويل الإعلامي الذي يُبث من الخارج، وعلى محاولات بائسة لتحريك هوية محلية راسخة في عمق الجزائر، وتاريخ لا يقبل التلاعب.
لقد عجز مشروع مهني منذ بداياته عن إيجاد موطئ قدم في القرى والبلدات والمراكز الحضرية في القبائل، لأن المنطقة بطبيعتها تقاوم الوهم، وترفض الانفصال، وتتعامل مع هويتها بمنطق الانتماء لا بمنطق القطيعة.
ثانيًا: القبائل… ذاكرة الثورة وليس منصة للانفصال
منطقة القبائل ليست مجرد رقعة جغرافية، بل هي ذاكرة حيّة من ذاكرات الثورة التحريرية.
هي مهد قادة كبار، وموطن شهداء، وساحة معارك حاسمة.
كيف يمكن لمنطقة بهذا التاريخ أن تتخلى عن وطنٍ كانت في طليعة من حرروه؟
كيف يمكن لجبال جرجرة التي احتضنت الثوار أن تُسخَّر لأحد الهاربين ليزعم أنه يمثلها من باريس؟
إنّ أبناء القبائل يعرفون جيدًا خطّهم التاريخي، ويعرفون أن مهني ليس امتدادًا لنضالهم، ولا تعبيرًا عن همومهم، ولا ممثلًا لوعيهم.
بل إن كثيرًا من أبناء عائلته ووسطه الاجتماعي تبرأوا من خطابه، معتبرين أنّ ما يقوم به تشويهٌ لتاريخ المنطقة، وخروجٌ عن ثوابت الشعب.
ثالثًا: قبائل الوعي تفضح زيف “ماك”
تتعامل القبائل اليوم مع دعوات “ماك” بوعي ناضج.
لم تخرج قرية واحدة تبايع مشروعه.
لم يصدر عن أي مؤسسة أو شخصية اجتماعية معتبرة دعم له.
بل تزايدت التصريحات الرافضة، من المجتمع المدني إلى المنتخبين المحليين، إلى النخب الثقافية والسياسية.
وبينما يحاول مهني تسويق فكرة “الخروج في 14 ديسمبر”، فإنّ أبناء المنطقة يردون بوضوح:
القبائل للجزائر… والجزائر للقبائل… ولا صوت يعلو فوق صوت وحدة الوطن.
رابعًا: الدعم الخارجي المكشوف… والرهان الخائب على تفكيك الجزائر
لا يمكن تجاهل أنّ هذا المشروع المنفصل عن الواقع يجد صداه فقط في بعض الأروقة الخارجية التي تبحث عن أوراق ضغط على الجزائر.
وفي الخطاب السياسي الوطني، كثيرًا ما يُشار إلى أنّ هناك دوائر مرتبطة بسياسات المخزن، وبعض القوى الفرنسية المتشبثة بعقلية الاستعمار القديم، وبعض المراكز الصهيونية التي تستثمر في كل انقسام عربي—تتلاعب بملف “ماك” وتوظفه وفق حسابات ضيقة.
هذه القراءة ليست اتهامًا مجانيًا، بل جاءت نتيجة ملاحظات سياسية موضوعية:
• توقيت التحركات يتماشى مع لحظات قوة الجزائر إقليميًا.
• الخطاب يُسوَّق من عواصم لا علاقة لها بالواقع القبائلي.
• الدعم الإعلامي يأتي من منصات اعتادت إثارة ملفات تستهدف الجزائر.
غير أنّ وعي الشعب الجزائري — وفي مقدمتهم أبناء القبائل — أسقط هذه المحاولات، وأدرك أن كل دعم خارجي لمهني ليس سوى محاولة لضرب وحدة البلاد ومكانتها الإقليمية.
خامسًا: الجزائر… الدولة التي تُفشل المؤامرات ولا تستجيب لها
الجزائر ليست دولة رخوة حتى تسقط أمام بيان يُقرأ في الخارج.
ولا شعبها هش حتى يتفكك أمام مشروع انفصالي يفتقر إلى شرعية.
لقد صمدت الجزائر أمام استعمار شرس، وأمام عشرية دموية، وأمام محاولات متكررة لجرّها إلى الفوضى.
واليوم، وهي أكثر قوة واستقرارًا، لن تكون لقمة سائغة أمام خطاب صادر من فنادق باريس.
الدولة الجزائرية اليوم دولة مؤسسات:
• جيش قوي،
• دبلوماسية مؤثرة،
• شعب واعٍ،
• تاريخ موحّد،
• وهوية لا تتجزأ.
ومَن يتوهم أنه قادر على تقويض هذا البناء عبر ورقة اسمها “ماك”، لا يفهم طبيعة هذا الوطن.
خاتمة: بين العصافير والخفافيش
إنّ عصافير القبائل تغرّد منذ آلاف السنين باسم الجزائر،
تغني بلغتها،
وتناضل بقيمها،
وتحفظ الأرض والهوية.
أما خفافيش الخارج، فليس لها من الفعل إلا الظلام،
ولا من الحضور إلا حين يغيب الوعي،
ولا من التأثير إلا بقدر ما تسمح به الأوهام.
ومهما حاول فرحات مهني ومن يدور في فلكه، فإنّ مشروعه سيظل ملهاة سياسية لا أثر لها على الأرض.
فالأوطان التي تُسطّر خرائطها بدم الشهداء لا تُقسّم بقرارات تُعلن من باريس،
والقبائل التي وقفت سيفًا للثورة لن تتحول ورقة تُحركها أيدٍ عابثة.
عصافير القبائل تزقزق للجزائر…
وخفافيش مهني لن تُفرّق هذا الشعب العظيم مهما اصطفّ خلفها المخزن أو فرنسا أو الصهيونية.
