الثلاثاء 23 ديسمبر 2025

فيضانات آسفي.. المخزن يُحوّل الكارثة إلى تبرير تقني للهروب من المسؤولية

نُشر في:
فيضانات آسفي.. المخزن يُحوّل الكارثة إلى تبرير تقني للهروب من المسؤولية

خرج وزير التجهيز والماء نزار بركة إلى البرلمان ليشرح للمغاربة كيف غرقت آسفي، لا ليعتذر، ولا ليعلن عن محاسبة، بل ليقدّم رواية تقنية باردة تختزل المأساة في “سيول مرّت أسفل المدينة ولم تمر عبر السد”. وكأن عشرات الأرواح المهددة، وممتلكات الفقراء التي جرفتها المياه، مجرد خلل في المسار الهيدرولوجي، لا نتيجة مباشرة لعقود من سوء التخطيط، والتغاضي، والاستهتار بأرواح المواطنين.

حديث وزير المخزن عن “المخاطر المناخية القصوى” ليس سوى مظلة لغوية مريحة لإعفاء الدولة من مسؤولياتها. صحيح أن التغير المناخي واقع عالمي، لكن الكارثة لا تتحول إلى فاجعة إلا حين تصطدم السيول بمدن مخنوقة بالعشوائية، ومجاري أودية مغتصبة بالإسمنت، وبنيات وقائية صورية لا تحمي أحدًا. السؤال الذي لم يجب عنه الوزير هو: لماذا تُبنى مدينة كاملة في مسار طبيعي للسيول؟ ولماذا تُترك نقاط الاختناق معروفة منذ سنوات دون تدخل؟ ومن سمح بتقليص عرض الوادي من 800 متر إلى 300 عند المصب؟

الأكثر فجاجة في خطاب الوزير هو التلويح بالأرقام: 482 مليون متر مكعب واردات مائية، 34 في المائة نسبة ملء السدود، 33 مشروعًا للحماية… أرقام تُلقى في وجه الفاجعة كما لو كانت عزاءً للأسر التي فقدت بيوتها، أو تفسيرًا لمن ماتوا تحت الماء. لكن السد الذي “لم يستقبل سوى 200 ألف متر مكعب” رغم طاقته الكبيرة، ليس ضحية السيول، بل دليل على فشل الرؤية الوقائية نفسها. فما قيمة سد لا تصل إليه المياه في لحظة الخطر؟ أليس هذا اعترافًا ضمنيًا بأن التخطيط كان معيبًا من الأساس؟

أما الحديث عن “الإنذار المبكر” الذي فُعّل في الثامنة أو الثامنة والنصف، فيبقى بلا معنى حين يكون الخطر قد وصل بالفعل إلى قلب الأحياء الهشة. الإنذار لا ينقذ إن لم تُهيَّأ المدينة، وإن لم تكن هناك مسالك تصريف، وإن لم تُمنع البناءات في المناطق الخطرة. الإنذار ليس بديلاً عن الوقاية، بل ورقة توت تُستخدم بعد وقوع الكارثة لتقليص حجم الغضب.

وعندما يُستدعى اسم الملك في كل كارثة، عبر “تعليمات سامية”، فإن ذلك لا يحل المشكلة بل يفضحها: دولة لا تتحرك إلا بعد الفاجعة، ولا تُحاسب إلا نظريًا، ولا تُصحّح إلا تحت الضغط. أين كانت هذه التعليمات قبل أن تغرق آسفي؟ وأين كانت الدراسات “الدقيقة” قبل أن يتحول الوادي إلى سكين مائي في خاصرة المدينة؟

ما وقع في آسفي ليس حادثًا استثنائيًا، بل حلقة جديدة في سلسلة فشل بنيوي: فاس قبلها، والحوز قبلها، ومدن أخرى تنتظر دورها. المشترك بين كل هذه المآسي ليس المطر، بل غياب المحاسبة. نفس الوجوه، نفس التبريرات، نفس الوعود بالدراسات المستقبلية، ونفس الضحايا من الفقراء وسكان المدن العتيقة.

الكارثة الحقيقية ليست أن السيول مرّت أسفل المدينة، بل أن المسؤولية تمر دائمًا فوق رؤوس المسؤولين دون أن تمسّهم. ما دام الخطاب الرسمي يصرّ على تفسير الموت بلغة تقنية، بدل الاعتراف بالتقصير السياسي والإداري، فإن الفيضانات القادمة ليست احتمالًا، بل موعدًا مؤجلًا. وفي بلد تُدار فيه الكوارث بالبلاغات، يبقى المواطن وحده في مواجهة الماء.. والإنكار.

رابط دائم : https://dzair.cc/wqpu نسخ

اقرأ أيضًا