بين ديناميكية الاستثمار، ترسيخ الطابع الاجتماعي، وفتح أفق الحوار السياسي
لم يكن خطاب رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، اليوم أمام البرلمان بغرفتيه مجرّد عرضٍ تقني لأرقام أو استعراض لإنجازات ظرفية، بل جاء بمثابة إعلان سياسي واقتصادي عن دخول الجزائر مرحلة حاسمة في مسار إعادة بناء الدولة على أسس الإنتاج، السيادة، والعدالة الاجتماعية. مرحلة تتقاطع فيها الإرادة السياسية مع مؤشرات ميدانية متقدمة، وتُغلَق فيها تدريجيًا صفحات الريع والتسيير بالمسكنات.
اقتصاد ينتقل من الركود إلى الفعل
تأكيد الرئيس تبون أن الجزائر دخلت مرحلة حاسمة اقتصاديًا يستند إلى معطيات غير مسبوقة منذ عقود. فبلوغ عدد المشاريع الاستثمارية المسجلة حوالي 19 ألف مشروع بقيمة تفوق 8.200 مليار دينار، وما نتج عنها من 500 ألف منصب شغل، يعكس تحوّلًا بنيويًا في مناخ الأعمال، بعد سنوات طويلة من التعطيل البيروقراطي والتردّد السياسي.
هذا التحول لم يأتِ من فراغ، بل كان ثمرة إصلاحات عميقة شملت قانون الاستثمار، تحرير المبادرة الاقتصادية، رقمنة الإجراءات، وإعادة الاعتبار لدور الدولة كمنظّم لا كعائق. وهو ما أكدته تقارير صحفية وطنية متطابقة أشارت إلى ارتفاع ملموس في وتيرة خلق المؤسسات الصناعية، خصوصًا في مجالات الصناعات الغذائية، الميكانيكية، والدوائية.
الصناعة.. من الهامش إلى قلب المعادلة
رفع مساهمة الصناعة إلى 10 بالمائة من الناتج الوطني الخام، مع هدف بلوغ 13 بالمائة، ليس رقمًا معزولًا بل مؤشرًا على تغيير فلسفة التسيير الاقتصادي. فالجزائر، التي عانت طويلًا من اختزال اقتصادها في المحروقات، بدأت تستعيد منطق الدولة المنتِجة.
ويبرز قطاع الصناعات الصيدلانية كنموذج واضح لهذا التحول، إذ بلغت نسبة تغطية السوق الوطنية بالأدوية المنتجة محليًا 82 بالمائة، وهو إنجاز استراتيجي يتجاوز البعد الاقتصادي ليطال الأمن الصحي والسيادة الوطنية، خاصة في عالم مضطرب يعرف أزمات سلاسل التوريد.
الجزائر تعود إلى إفريقيا بالفعل لا بالشعارات
إشادة الرئيس بنجاح معرض التجارة البينية الإفريقية لم تكن مجاملة بروتوكولية، بل إشارة إلى عودة الجزائر الفعلية إلى عمقها الإفريقي بمنطق الشراكة الاقتصادية لا الخطاب العاطفي. النتائج “الباهرة” التي حققها المعرض، بحسب توصيف الرئيس، عكست ثقة متزايدة في السوق الجزائرية، ورسّخت موقع البلاد كبوابة اقتصادية محورية في القارة.
حوار سياسي بضمانة التنفيذ
في الشق السياسي، جدّد الرئيس تبون التزامه بحوار سياسي شامل مع الأحزاب، بعد المصادقة على قانون الأحزاب. لكن الأهم في هذا الطرح ليس الإعلان في حد ذاته، بل التعهد الصريح بتطبيق مخرجات الحوار، وهو ما يميّز هذه المقاربة عن تجارب سابقة كانت تنتهي عند حدود الخطابات.
هذا التوجه يعكس قناعة راسخة لدى مؤسسة الرئاسة بأن الاستقرار السياسي الدائم لا يُبنى بالإقصاء، بل بإشراك الفاعلين السياسيين في صياغة الخيارات الكبرى، ضمن سقف الدستور ومصلحة الدولة.
الطابع الاجتماعي: خط أحمر لا يُمس
في أكثر مقاطع الخطاب وضوحًا وحسمًا، أكد الرئيس تبون أن الجزائر لن تتخلى عن طابعها الاجتماعي، باعتباره امتدادًا مباشرًا لبيان أول نوفمبر 1954. هذا التأكيد يأتي في سياق إقليمي ودولي يتجه نحو تفكيك الدولة الاجتماعية تحت ضغط الليبرالية المتوحشة.
لكن الجزائر، وفق رؤية الرئيس تبون، تسير في اتجاه مختلف: اقتصاد منتج نعم، لكن دون التخلي عن المواطن البسيط. فالدعم الاجتماعي، السكن، الصحة، والتعليم ليست “أعباءً” كما تُصوَّر في بعض المدارس الاقتصادية، بل استثمار في الاستقرار والكرامة الوطنية.
ولعل قوله إنه “لا توجد دولة في العالم تمتلك سياسة اجتماعية كالجزائر” ليس مبالغة خطابية، بل توصيف لواقع تؤكده الأرقام وحجم التحويلات الاجتماعية التي لا تزال الدولة تتحملها رغم التحديات المالية.
مشروع دولة لا سياسة ظرفية
ما يميّز خطاب الرئيس تبون، وما سبقه من ممارسات، أنه لا يقدّم حلولًا مؤقتة أو وعودًا انتخابية، بل مشروع دولة متكامل: اقتصاد متحرر من الريع، صناعة في قلب النمو، انفتاح إفريقي مدروس، حوار سياسي مسؤول وعدالة اجتماعية غير قابلة للمساومة.
إنها ملامح جزائر جديدة تتشكّل بهدوء، لكن بثبات، في زمن عربي وإقليمي مضطرب، جزائر اختارت أن تُصلح من الداخل، لا أن تستورد الوصفات، وأن تراهن على شعبها لا على الإملاءات الخارجية.
في هذا السياق، تبدو سياسة الرئيس عبد المجيد تبون ليست مجرد خيار سياسي، بل استجابة تاريخية لمرحلة تتطلب الشجاعة، الوضوح، والالتزام.
