1 سبتمبر، 2025
ANEP الاثنين 01 سبتمبر 2025

لغز المغرب الذي لم يُحل بعد.. إلى أين تمضي البلاد تحت حكم ملك بوجهين؟

نُشر في:
بقلم: أحمد عاشور
لغز المغرب الذي لم يُحل بعد.. إلى أين تمضي البلاد تحت حكم ملك بوجهين؟

نشرت صحيفة لوموند الفرنسية سلسلة من ستة أجزاء تحت عنوان “لغز محمد السادس”، حاولت من خلالها رسم صورة شاملة عن ملك المغرب بعد أكثر من ربع قرن في الحكم. تحقيقات تكشف عن تناقضات شخصية وسياسية، وتضيء على شبكة السلطة، الصراعات الداخلية، والدور الذي يلعبه الملك بين الداخل والخارج.

محمد السادس .. ملك بوجهين ومعادلة مستحيلة

بعد ستة وعشرين عامًا على اعتلائه العرش، ما زال محمد السادس يثير الأسئلة أكثر مما يقدّم الإجابات. بين صورة ملك عصري يقود مشاريع كبرى، وصورة رجل مرهق يظهر على كرسي صغير في صلاة العيد، يقف المغرب أمام مفارقة حادة: ملك حاضر في الدبلوماسية، غائب عن السياسة الداخلية.

ما تكشفه سلسلة لوموند ليس مجرد تفاصيل بروتوكولية أو قصص من داخل القصر، بل حقيقة أعمق: الحكم في المغرب ليس مؤسسات بل شبكات ولاء تدور كلها حول شخص واحد. حضورك أو غيابك عن حفلة ملكية قد يرفعك إلى قمة النفوذ أو يرميك إلى الهامش.

في الخارج، يعرف محمد السادس كيف يلعب أوراقه. مع فرنسا مثلًا، مارس ضغوطًا قاسية حتى انتزعت الرباط اعتراف باريس بسيادتها على الصحراء الغربية. أما في الداخل، فقد منح الإسلاميين فرصة الحكم بعد 2011، ثم تركهم يواجهون غضب الناس، ليعود هو الحكم المطلق فوق الجميع.

الإصلاحات التي بشّر بها في بداية حكمه لم تكتمل قط. كل ما بقي هو تحديث اقتصادي على شكل موانئ ومشاريع تنموية، يقابله جمود سياسي خانق. الغرب راضٍ بهذه المعادلة، لأنها توفر له شريكًا مستقرًا، لكن الثمن يدفعه الداخل المغربي في شكل فقر، تهميش، وصمت قسري.

الملك يحمل لقب “أمير المؤمنين”، الذي يجعله فوق أي منافسة دينية أو سياسية. بهذا السلاح، يستطيع أن يمنع حتى ذبح الأضاحي بحجة الأزمة، ثم يضحّي أمام الكاميرات ليؤكد سلطته الرمزية.

هكذا يتجلى “لغز محمد السادس”: ملك بوجهين، يوزع الابتسامات على الشاطئ ويقود “جيت سكي”، ثم يعود ليحكم بلقب مقدس لا يجرؤ أحد على منازعته. بعد ربع قرن، السؤال لم يعد عن صحته أو غيابه، بل عن مصير بلد كامل يراوح مكانه بين اقتصاد حديث وسياسة متحجرة.

صور متناقضة لملك يعيش بين الوهن والحيوية

في عيد الأضحى الأخير (جوان 2025) ظهر الملك جالسًا على كرسي صغير في تطوان، بوجه شاحب أثار القلق حول صحته. لكن بعد أيام قليلة، شوهد يقود “جيت سكي” مبتسمًا في مياه “كابو نيغرو”.

ومع ذلك، فإن مجرد ظهور علامات الوهن الجسدي تثير داخل أوساط السلطة صراعات النفوذ و”حسابات ما بعد محمد السادس”، في ظل غياب رؤية واضحة عن مسار الخلافة ومستقبل الحكم في المملكة، إذ أن هذه المفارقة تلخص مرحلة كاملة: ملك حاضر وغائب في الوقت نفسه، ما يفتح الباب أمام تكهنات عن الخلافة وصراعات القصر.

المخزن .. سلطة تُدار بالطقوس

الحكم في المغرب قائم على شبكة ضيقة تعرف بـ”المخزن”، حيث تحدد الطقوس الملكية موقع كل شخصية.

من يظهر بجانب الملك في عيد العرش أو المناسبات الكبرى يظل في دائرة النفوذ، أما من يغيب فيُعتبر مغضوبًا عليه، كما حدث مع رئيس الاستخبارات الخارجية ياسين المنصوري في 2025، هكذا يتحول البروتوكول إلى أداة سياسية، تحمل إشارات الولاء والعقاب.

وتتكون “شبكة المخزن” من مجموعة محدودة من المقربين الموثوقين، لكن داخلها توجد تنافسات وصراعات خفية تكشف عن توتر وقلق بشأن مستقبل الحكم بعده، حيث يعتبر البروتوكول الملكي كمؤشر على النفوذ، إذ أن الظهور في حفلات الملك (إفطار رمضان، عيد العرش، استقبال رؤساء أجانب..) يعد بمثابة علامة على الرضا الملكي والمكانة الرفيعة، أما الغياب عنها فيُعدّ إشارة واضحة على السقوط من دائرة النفوذ، مثلما حدث مع الملياردير عثمان بنجلون، الذي تم إبعاده فجأة عن الدعوات الملكية سنة 2012 بسبب حادثة بروتوكولية.

لكن جذور الخلاف تعود لمحاولة مجموعته السيطرة على SNI (الهولدينغ الاستثماري الملكي)، وهو ما اعتبره القصر خطاً أحمر .. لاحقاً استحوذ المخزن على SNI وحولها سنة 2018 إلى Al Mada.

في جوان الماضي، خلال صلاة عيد الأضحى بتطوان، لُوحظ غياب ياسين المنصوري (رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية DGED) عن موكب التهنئة للملك.
غياب كهذا أثار تكهنات بوجود غضب ملكي أو صراع داخلي بين أقطاب الحكم.

وحسب مقالات لوموند فإن النظام المغربي يقوم على توازنات دقيقة بين المقربين من الملك، وأن أي خلل في هذه التوازنات يظهر مباشرة عبر الطقوس الملكية.

وتُترجم هذه المؤشرات الصغيرة (حضور أو غياب في مناسبة رسمية) داخل النخبة المغربية كرسائل سياسية قوية حول النفوذ، الولاء، أو السقوط.

الصحراء الغربية .. ورقة ضغط خارجية

في الخارج، يوظف محمد السادس ورقة الصحراء بمكر وخبث. ففي أكتوبر 2024، استقبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بمراسم ملكية فخمة، مقابل ثمن سياسي واضح: اعتراف فرنسا بسيادة المغرب على الصحراء الغربية.

اللقاء بدا وكأنه إعادة وصل ما انقطع بعد فترة من الفتور غير المفهوم، هل كان الأمر عودة إلى جذور علاقة خاصة جمعت البلدين منذ استقلال المغرب الأقصى عام 1956؟ ليس تمامًا، لم يعد شيء كما كان، على عكس مقولة لامبيدوزا الشهيرة في روايته “الفهد” (1958): “يجب أن لا يتغيّر شيء لكي يتغيّر كل شيء”، فإنّ العلاقة المغربية الفرنسية انقلبت معادلتها.

ماكرون حظي ذلك اليوم، بمظاهر فخامة ملكية متقنة، لكنه دفع ثمنها سياسيًا: فقد قدّم للرباط ما كانت تنتظره منذ سنوات، اعتراف فرنسا بـ”السيادة المغربية” على الصحراء الغربية خطوة لم تأتِ بلا ضغط، فمنذ صيف 2021، فرض المغرب الأقصى على باريس اختبار قوة غير مسبوق: تعليق اللقاءات الرسمية، تجميد التعاون الثنائي، وتوجيه انتقادات لاذعة، وأحيانًا جارحة، عبر وسائل إعلام قريبة من السلطة.

وفي هذا السياق، يرى تحقيق لوموند في ذلك “تتويجًا لسنوات من الضغوط الدبلوماسية التي مارسها القصر على باريس، حيث تحولت الصحراء إلى سلاح استراتيجي يحدد توازن علاقات المغرب مع القوى الكبرى.”

بدايات واعدة بلا إصلاح سياسي

حين تولى محمد السادس الحكم عام 1999، قدّم نفسه كملك شاب حداثي. مراكش أصبحت واجهة الانفتاح الثقافي عبر مهرجانها السينمائي وسهرات القصور، إلى جانب ظهور زوجته لالة سلمى علنًا مثل قطيعة رمزية مع عهد والده الحسن الثاني.

لكن خلف الصورة اللامعة ظل الواقع السياسي جامدًا، فالإصلاحات اقتصرت على مشاريع اقتصادية وثقافية، بينما بقيت السلطة مركزة في القصر.

“أمير المؤمنين” .. سلطة فوق الجميع

اللقب الديني “أمير المؤمنين” يمنح الملك سلطة مطلقة روحية وسياسية. في 2025، دعا المغاربة إلى الامتناع عن ذبح الأضاحي، ثم ظهر على التلفزيون ليذبح كبشين نيابة عنهم، وبهذه الرمزية، لم تكن المرة الأولى التي يُطلب فيها من الشعب المغربي المغلوب على أمره عدم ذبح الأضاحي، فقد سبق للحسن الثاني، والد محمد السادس، أن حظر الذبح ثلاث مرات — سنة 1963 بسبب “حرب الرمال” مع الجزائر، وسنتي 1981 و1996.

وبهذا يستخدم محمد السادس الدين كأداة لتعزيز شرعيته وتأكيد أنه الحكم المطلق فوق الجميع.

الإسلاميون في الفخ والدستور المقيّد

بعد حراك 2011، سمح الملك للإسلاميين بقيادة الحكومة. لكنهم وجدوا أنفسهم مكبلين وعاجزين أمام أزمات المعيشة والفساد، بينما بقي القرار بيد القصر.
حتى دستور 2011، الذي قُدم كإصلاح تاريخي، لم يقلص سلطات الملك، بل أبقى البرلمان والحكومة في موقع ثانوي.

تحديث اقتصادي .. جمود سياسي

الصورة التي ترسمها لوموند واضحة: “ملك حداثي يقود مشاريع ضخمة مثل ميناء طنجة المتوسط ويعرض بلاده كجسر بين إفريقيا وأوروبا، وملك سلطوي يحتكر السياسة والدين ويُبقي المؤسسات شكلية، ما ينتج عنه هذه المعادلة النهائية: اقتصاد يبدو في الظاهر أنه “يتطور” ليرضي الخارج، مقابل سياسة جامدة تخنق الداخل.

وبعد ربع قرن من الحكم، يبقى محمد السادس لغزًا مفتوحًا: ملك يوزع الابتسامات من على “جيت سكي”، لكنه يحكم بلقب “أمير المؤمنين” الذي لا ينازعه فيه أحد. صورة براقـة للعالم، وواقع داخلي مأزوم يطرح سؤال المستقبل: إلى أين يمضي المغرب تحت حكم ملك بوجهين؟

رابط دائم : https://dzair.cc/d04n نسخ