19 سبتمبر، 2025
ANEP الجمعة 19 سبتمبر 2025

مالي تَرمي بقضيتها السياسية على ظهر محكمة العدل الدولية: مناورةٌ فاشلة لتشويه الجزائر

نُشر في:
بقلم: أحمد عاشور
مالي تَرمي بقضيتها السياسية على ظهر محكمة العدل الدولية: مناورةٌ فاشلة لتشويه الجزائر

أقدمت الحكومة الانتقالية في مالي على خطوةٍ قضائية أثارت استغراباً دولياً عندما أودعت طلباً لرفع دعوى ضد الجزائر أمام محكمة العدل الدولية متهمة إياها بـ«العدوان» إثر إسقاط طائرة مسيّرة عسكرية في المنطقة الحدودية. ما بدا خطوة قانونية محايدة سرعان ما تحول إلى مناورة سياسية مفضوحة تهدف إلى تبرير محاورات داخلية وتحويل الأنظار عن إخفاقات أمنية وسياسية داخلية لدى باماكو.

الوقائع البسيطة أولاً: مالي زعمت أن طائرتها المسيرة كانت داخل أراضيها وأن إسقاطها عمل متعمد يرقى إلى استعمال القوة ضد دولة سيادية. الجزائر ردت فوراً بنفيٍ واضح، مؤكدة أن الرادارات سجّلت اختراق الطائرة لأجوائها على مسافة تزيد عن كيلومترين قبل إسقاطها. ثم تدخلت محكمة العدل الدولية لتوضح قيداً قانونياً حاسماً: لا يمكن للمحكمة المضي قدماً في النظر بالملف ما لم تُقِرّ الجزائر اختصاصها الطوعي أو توافق على نظر الدعوى. بعبارة أخرى: الملف لن يُفتح إلا بإرادة الجزائر، وليس بتصريحات أو بيانات إعلامية من حكومات انتقالية.

منطق هذه الخطوة الماليّة ضعيف سياسياً وقانونياً. في بيئةٍ إقليميةٍ متقلّبة، لجأت باماكو إلى المحكمة كوسيلة لتصفية حسابات وتحريك سجال دبلوماسي لا يحلّ المشكلات الميدانية التي تواجهها؛ مشاكل ترتبط بالعجز عن بسط سيطرتها على مساحات واسعة من أراضيها ومأزق اعتمادها المتزايد على تحالفات خارجية متناقضة المصالح. التحويل القضائي للمواجهة مع جار إقليمي قوي لا يعالج جذور الأزمة الأمنية ولا يضمن سلامة مواطني مالي.

ثمّ ثمة بعد دبلوماسي: هذه الخطوة تُقرأ في سياق تراجع الدور التقليدي لبعض الحلفاء الأوروبيين لمالي وارتفاع نفوذ فواعل إقليمية ودولية جديدة في خرائط التحالفات. اختيار المنحى القضائي أمام محكمة لا تعمل بالإلزامية المطلقة على الدول، بل بالاختيارات السيادية للمتداعين، يبيّن أن باماكو تبحث عن «مشروعية خارجية» لخطواتها، بدلاً من فتح قنوات حقيقية للحوار مع جارٍ تاريخي وجيوستراتيجي مثل الجزائر.

الرسالة السياسية واضحة: عندما تُستعمل المحاكم الدولية كأداة ضغط سياسية بدلاً من قِوامها القانوني والفني، تتحوّل الدعوى إلى مادة إعلامية تصبّ في خانة الدعاية، لا إلى وسيلة لحلٍّ مستدام. والوقائع تؤكد أن محكمة العدل الدولية لم تتلقَ إلى الآن تفويضاً بقبول النظر في الملف إلا بموافقة الجمهورية الجزائرية، ما يعرّي هشاشة المدّعى المالي قبل حتى أن يبدأ الدفاع.

من زاويةٍ أخرى، يثيرنا التساؤل عن توقيت هذه الخطوة وعن خلفياتها: لماذا الآن؟ ولمصلحة من تُستعمل محكمة العدل الدولية كمنبر سياسي؟ الإجابات تحمل عناصرٍ متوقعة: تحويل الضوء عن إخفاقات داخلية، تعزيز رواية بأن الجزائر «معادية» لتعزيز شرعية داخلية، وربما محاولة كسب قواعد تأييد إقليمية بطعم قضيةٍ دولية. لكن القانون الدولي لا يُغطي الفجوات السياسية ولا يغطّي الفراغات الأمنية.

لا يكون الردّ القضائي الناجح بمحاولة الإشهار الإعلامي، بل بالحجج الثابتة والأدلة الفنية الصريحة؛ وهي أمورٍ يعرفها القانون الدولي جيداً. وبهذا المعنى، فإن منطقية الجزائر في التمسك بموقفها التقنيّ—وجود اختراق جوي موثّق—تقف عند قلب المواجهة: من يملك الأدلة يُوجد على أرضية قوية، ومن يحوّل الأمر إلى حملة إعلامية يخسر مصداقيته أمام المحاكم والمؤسسات الدولية.

في الخلاصة: ما تقدّمت به باماكو أمام محكمة العدل الدولية أثبتت أنه ليس تعبيراً عن ثقة قانونية بقدر ما هو مناورة سياسية. إذا كان الهدف حماية سيادة القانون وحفظ الأمن الإقليمي، فالطريق الحقيقي يبدأ بحوار مباشر وتقنيات تنسيق على الأرض مع الجار الجزائري، لا بالمماحكات القضائية العلنية التي تُستخدم كورق توت على مسرح الإعلام. وحتّى يتضح المسار القانوني وفق الأصول، ستبقى هذه الدعوى محطة إعلامية أكثر منها قراراً قضائياً ذا وزن فعلي.

رابط دائم : https://dzair.cc/ozpu نسخ