في أحدث تطوّر يربك الحسابات الجيوسياسية في غرب المتوسط، نجح الحزب الشعبي الإسباني (PP) في تمرير مقترح برلماني يلزم حكومة بيدرو سانشيز بـ التراجع عن الانحياز للموقف المغربي في ملف الصحراء الغربية، واستعادة سياسة الحياد التقليدية التي التزمت بها مدريد منذ أكثر من نصف قرن، مع دعوة واضحة إلى إعادة بناء الثقة مع الجزائر وتعزيز العلاقات الثنائية على كل المستويات. المفارقة أنّ هذا المقترح مرّ بدعم من حزب سومار—شريك الحكومة اليسارية—وبـ معارضة الحزب الاشتراكي نفسه (PSOE)، ما كشف عمق العزلة السياسية التي يعيشها سانشيز بسبب قراره الانفرادي عام 2022.
عودة إلى الواقعية: الجزائر “شريك موثوق” في نظر المؤسسات الإسبانية
المقترح البرلماني أشار بوضوح إلى ما يتجنّبه الخطاب الحكومي:
الرهان على المغرب لم يجلب لإسبانيا الاستقرار، بينما أثبتت الجزائر على مدى عقود أنها شريك موثوق، ثابت، ومتسق في مواقفه الدولية، خصوصًا في مجالات الطاقة والأمن والتنسيق السياسي.
النص المصوَّت عليه يذكّر بأنّ الجزائر لم تخلف يومًا التزاماتها الطاقوية مع مدريد، حتى في أشدّ فترات التوتر، مقابل سلسلة من الأزمات المتكررة مع الرباط، بدءًا من الابتزاز بورقة الهجرة، وصولًا إلى الأزمات الحدودية والاستخباراتية.
رسالة مباشرة إلى سانشيز: “الحيد عن الحياد كلّفنا كثيرًا”
الوثيقة البرلمانية حمّلت سانشيز مسؤولية التدهور الحاد في العلاقات مع الجزائر بعد قراره الاعتراف بـ “خطة الحكم الذاتي المغربية” كحل وحيد لقضية الصحراء الغربية، واصفة الخطوة بأنها انحراف أحادي غير مبرر كسر موقفًا إسبانيًا استمر خمسين عامًا.
ولم يكتفِ المقترح بالتشخيص، بل دعا إلى:
إعادة الحوار السياسي مع الجزائر.
تفعيل القنوات الدبلوماسية في كل المستويات.
إحياء معاهدة الصداقة وحسن الجوار (2002).
دعم دور بعثة الأمم المتحدة (المينورسو).
العودة إلى “الحياد الفعّال” كقاعدة لإدارة الملف الصحراوي.
بين الجزائر والمغرب… ميزان القوة يتغير داخل مدريد
أحد أبرز ما كشفه النقاش البرلماني هو أنّ مراكز القرار داخل الدولة الإسبانية—من المؤسسات التشريعية إلى الخبراء الاستراتيجيين—تعي تمامًا أن العلاقات مع الجزائر ليست هامشية ولا رمزية، بل تمثل عنصرًا بنيويًا لأمن إسبانيا الطاقوي والإقليمي.
في المقابل، أشار نواب الحزب الشعبي إلى أنّ العلاقات مع المغرب كانت دائمًا ملغّمة بالتقلبات والضغوط وعدم الاستقرار، ما يجعل بناء استراتيجية دائمة معها أمرًا محفوفًا بالمخاطر، خصوصًا عندما تُدار الملفات الحسّاسة—مثل الهجرة أو مكافحة الإرهاب—بأسلوب “الضغط مقابل التنازل”.
هل يقترب سانشيز من نهاية هامش المناورة؟
الرسالة السياسية التي نقلها التصويت واضحة:
الأغلبية البرلمانية لم تعد مستعدة لمجاراة المغامرة الدبلوماسية التي قادها سانشيز، حتى داخل معسكر اليسار. فدعم حزب سومار للمقترح شكّل ضربة رمزية إضافية تؤكد الشرخ داخل الحكومة.
أما الحزب الشعبي، فقد استثمر الموقف لإبراز نفسه كمدافع عن النهج التقليدي المتوازن لإسبانيا في المغرب العربي، مؤكّدًا أنّ أي حل للأزمة مع الجزائر يتطلب—بالدرجة الأولى—تغييرًا في رئاسة الحكومة.
مدريد تعيد رسم بوصلتها… والجزائر تعود مركز الثقل
سواء التزم سانشيز بالمقترح أم تجاهله، يبقى المؤشر الأهم أنّ البرلمان الإسباني غيّر قواعد اللعبة:
الرهان على الجزائر لم يعد خيارًا سياسيًا، بل ضرورة استراتيجية.
والعودة إلى الحياد في قضية الصحراء الغربية لم تعد وجهة نظر، بل مطالبة مؤسساتية تحمل زخما جديدًا يتجاوز الحسابات الحزبية.
إنه تطور يؤكد أن علاقات مدريد بالجزائر أصبحت ملفًا داخليًا إسبانيًا بامتياز، وأنّ أي حكومة مقبلة—مهما كان لونها—لن تستطيع تجاهل هذه الحقيقة الجيوسياسية التي فرضت نفسها بقوة.
