ها هو القناع يسقط من جديد. أوروبا التي تتشدّق بحقوق الإنسان وشرعية الأمم المتحدة، تفتح ذراعيها للمخزن كي يعيد نهب المياه الصحراوية تحت لافتة “اتفاق صيد جديد”. بعد عامٍ فقط من حكم محكمة العدل الأوروبية الذي قطع الشك باليقين بأن الصحراء الغربية ليست مغربية، تعود بروكسل لتغسل وجه الاحتلال بماءٍ قذرٍ من المصالح والصفقات.
ما يحدث ليس مجرد خطوة دبلوماسية. إنه فضيحة سياسية وأخلاقية بأتمّ معنى الكلمة. المفوضية الأوروبية، التي يفترض أنها حامية القانون في القارة العجوز، تتصرّف كسمسارٍ سياسي لدى المخزن، تمدّه بالشرعية وتغضّ الطرف عن سرقاته في أرضٍ وشعبٍ ما يزالان تحت الاحتلال. فهل يمكن الحديث بعد اليوم عن “اتحادٍ أوروبيٍّ للقيم”؟ أم عن سوقٍ كبرى تُباع فيها المبادئ بأثمانٍ بخسة؟
إنّ إعلان المفوّض الأوروبي للصيد، كوستاس كاديس، عن إطلاق مفاوضات جديدة مع الرباط ليس سوى طعنة في ظهر العدالة الدولية، ورسالة وقحة للشعب الصحراوي مفادها: “القانون لا يخصكم، والثروات ليست لكم، وحقوقكم رهينة بتفاهمات فوق الطاولة”. إنه التحالف غير المقدس بين أوروبا التي تبحث عن مصالحها، والمخزن الذي لا يتورع عن بيع المياه الإقليمية الصحراوية مقابل صمتٍ سياسيٍّ جديد.
لكنّ هذه المسرحية ليست جديدة. فالمخزن اعتاد أن يستخدم البحر كما يستخدم الإنسان: وسيلةً للابتزاز السياسي. اليوم يعِد أوروبا بالاستقرار مقابل التواطؤ في الاحتلال، وغدًا سيبيعها “التعاون الأمني” مقابل صمتٍ آخر على القمع، كما باع من قبلُ تطبيعَه مع الصهاينة على أنه “شراكة سلام”.
البرلمان الأوروبي انقسم، وبعض نوابه الشرفاء صرخوا في وجه المفوضية: “أنتم تكافئون الاحتلال!”، لكن صوت الضمير في بروكسل أضعف من أن يُسمع وسط ضجيج الشركات البحرية الأوروبية التي تتشمّم رائحة الأرباح من شواطئ العيون والداخلة. أوروبا لا تريد أن تسمع إلا صوت محركات سفن الصيد التي تفرغ شباكها من الأسماك المسروقة، لا صوت الشعوب التي تطالب بحقها.
أما جبهة البوليساريو، فقد قالتها بوضوح: “أي اتفاق يشمل مياه الصحراء الغربية من دون موافقتنا هو باطل”. وهو قولٌ يجد صداه في ضمير كل من يعرف معنى الحرية والسيادة. لكن يبدو أن الاتحاد الأوروبي فقد ذاكرته التاريخية، فاختار الاصطفاف إلى جانب المحتلّ بدلًا من الوقوف مع الحق.
إنّ ما تفعله بروكسل اليوم ليس فقط تحدّيًا للقانون الدولي، بل خيانةً صريحةً لمبادئها. إنها تبرّر السرقة باسم “التعاون”، وتغلّف الاحتلال بورق “الاستقرار الإقليمي” البرّاق. هذه ليست دبلوماسية، إنها استعمارٌ مقنّع بثوبٍ حديث، تديره بيروقراطية عمياء لا ترى في جنوب المتوسط سوى منطقةٍ للتنقيب والتصريف والاستغلال.
أما المخزن، فهو يستغلّ هذه اللحظة ليقدّم نفسه مجددًا كـ“شريك موثوق”، في وقتٍ ينهار فيه الداخل المغربي تحت وطأة البطالة والفقر والغضب الشعبي المتصاعد. من إطعام ملايين الأفواه المغربية الجائعة بدقيق مخصص للحيوانات إلى سرقة الشواطئ والمياه الإقليمية الصحراوية، تتكشّف بنية نظامٍ لا يعرف سوى منطق النهب الممنهج.
أيّ استقرارٍ هذا الذي يُبنى على القمع؟ وأيّ شراكةٍ هذه التي تُقام على حساب شعبٍ يرزح تحت الاحتلال؟ الاتحاد الأوروبي اليوم ليس حليفًا للمغرب، بل شريكًا متواطئاً في جريمةٍ تاريخية ضد الشعب الصحراوي وضد العدالة الدولية.
إنّ زمن البيانات الدبلوماسية قد انتهى. ما يجري في الصحراء الغربية ليس “نزاعًا إقليميًا” كما يريدون تصويره، بل استعمارٌ مكتمل الأركان، تتورط فيه أوروبا بتمويلٍ سياسيٍّ واقتصاديٍّ سافر. والمخزن، بوجهه الجديد ووعوده الكاذبة، ليس سوى وكيلٍ محلّيٍّ لإدارة هذا النهب الأوروبي الممنهج.
لكن التاريخ لا يرحم. وكما أسقط الصحراويون بالأمس اتفاقاتٍ غير شرعية في المحاكم، فإنهم قادرون اليوم على إسقاطها في الميدان السياسي والقانوني معًا. لأن الشعوب قد تُخدع مرارًا، لكنها لا تُهزم إلى الأبد.
