واحة الصحراء… موروث ثقافي لا ينضب / بقلم هاجر بن السعدي

كحلوش محمد

هناك ، في منطقة أولاد نايل وعلى مرمى حجر من جهة الجنوب للجزائر العاصمة ، تتواجد أرض سَرّاء طيبة ، أرض تأسرك بكل مافيها .

أرض اتخذت من السرور مقاما لها فسميت مدينة السعادة واتخذت من الأدباء والمُلهَمين أخلاء فنادوها بمكة الفنانين واحتضنت العلماء والفقهاء فوسموها بمدينة العظماء …..انها بوسعادة .

مدينة إتفق الجميع على هُيامِها فتغنوا بها ونسجوا أبهى كلمات الحسن والدلال فيها . فلم يبالغ غيدو موباسون وغوستاف فلوبار وايميل زولا في قولهم أن واحة بوسعادة ومع صغرها الا أنها الأكثر سحرا في الجزائر وأردفت ايزابيل ايبرهارت في وصف بوسعادة أنها الملكة الوحشية السمراء التي ترى بساتينها الظليلة والمحمية من قبل كثبانها البنفسجية وهي ترقد على حافة واد تجري مياهه على حجارة بيضاء ووردية .

ناهيك عن بهائها وحسن بنائها فبوسعادة تعتبر مدينة التراث والميراث والموروثات الثقافية اللامادية بإمتياز وتفوق ، لاشتهارها بالصناعات والحرف التقليدية المتدفقة في جينات أهل المنطقة والمتأصلة فيهم جيل عقب جيل .وكتكريم لأهل بوسعادة تم انشاء سوق برمته للصناعات التقليدية ، ذلك الخَوَرْنَقُ الذي يتوسط المدينة ويُقَيِنُهَا بالعادات والتقاليد المكتسبة عن الأجداد والذي يجعل منها عالما خاصا لا قرين له .

ففور دخولك الى السوق ينتابك شعور فريد بالاصالة والتجذر الذي لا ينضب وستشحن برائحة التراث وعبق الماضي المتحضر بلمسات الحرفيين والفنانين من أبناء بوسعادة .

رصيد ثقافي وقائمة تراث لامادي غنية تكتنز عليها بوسعادة يتأتى في طليعتها الموس البوسعادي الذي يُسمَعَ ارزيز دقات صقله وتفليله من بعيد .

الموس البوسعادي رمز الجسارة والرجولة وموروث عمره قرنين من الزمن ، هبة ربانية حبى بها الله البوسعاديين فأبدعوا في التعامل مع الحديد والنحاس وقولبته في شكل سكاكين وسيوف وخناجر ، يتكون الموس البوسعادي من سكين حديدية مفللة حادة يُزَيَنُ جزء منها بنقوش ابداعية فتانة وقبضة يد مصنوعة من العاج واحيانا من خشب البلوط مشدود بسلك من لُجين خالص ، وغمد مصنوع من جلد .

يعود تاريخه الى بدايات القرن 19 فقد صنع لأول مرة من طرف فرقة الحدادة من عرش السوامع بعد ذلك احترفته عديد العائلات البوسعادية وأضحى بمثابة مصدر رزق لهم ثم اقترن اسمه بمدينة بوسعادة .

ويطول الحديث عن الحلي الفضي البوسعادي الذي يعتبر رمز المنطقة ، فصناعة الحلي في بوسعادة حرفة قديمة قِدَمَ المنطقة التي مازالت قائمة الى اليوم ومازالت مصدر تجمل وزينة للنساء النايليات ما يزيدهن جمالا فوق جمالهن ، وانواع حلي اللجين هناك عديدة ومتعددة على غرار الشياط تلك القطعة المرصعة والمثلثة الشكل ذات مسننة رقيقة والمساك الذي يستعمل لشد اطراف الثياب وكذلك الحزام أو السبتة كما يطلق عليها ، واليد أو الخمسة وسوار العرقوب أو الخلخال والرديف والخاتم والحلية البيضاوية أو البروش مدور ورافع النقاب أو البحري ، أيضا الناصية أو الجبين ، كذلك حلية الحرز والتي تشكل لغزا بين حلي هذه الواحة فهي تحتوي على آيات قرءانية تبعد الأذى عن مقتنيها ويكون حجمها 3×4 سم وتلبس في سلسال فضي جميل .

تصنع هذه القطع الرائعة في وعاء يحمل بضع ليترات وسندان حجمه 10×5سم وبمطرقة وملقط وحصبة وقطعة حديدة يسوى ويصقل محتوى القالب لينتج أبهى وأروع الحلي الفضي .

ولا يجوز الحديث عن الحلي دون ذكر السخاب ذلك العقد الطويل الذي يزين صدور النساء البوسعاديات فصناعته تكون من مواد طبيعية بحتة يضاف اليها المسك والقرنفل وحبة القمحة ثم تعجن هذه المكونات وتقطع الى حبيبات ثم تجفف في الهواء وتركب على شكل عُقد يطلق عليه اسم السخاب وهو عقد جميل طيب الرائحة لا غنى للعروس النايلية عنه ليلة الحناء .

ولا تزال العائلات البوسعادية محافظة على تراثها التقليدي في اللباس الرجالي منه والنسوي الذي يعد بمثابة هوية المدينة وكيانها ، ذلك اللباس المتميز الذي.ينفرد بخصوصية عمق الاصالة ، لباس عرش أولاد نايل أكبر.قبيلة في افريقيا ذو سمعة وطنية وعالمية نظرا لتفاصيل صناعته الفريدة وكذلك للأهمية التي توليها اليه النساء النايليات اضافة الى الاناقة التي يضفيها للمرأة .

يتكون اللباس النايلي الأصلي النسوي من عدة.قطع أولها الجبة : وهي القطعة الاساسية في الزي النايلي يضاف اليها مايسمى البرينس وفوق الجبة يتم ارتداء الملحفة التي توضع على ظهر المرأة وتكون قصيرة مقارنة بالجبة وعادة ما تكون الملحفة بيضاء اللون ثم الطاسة وهي عبارة عن قبعة توضع على الرأس وتحاك من الصوف وتطرز بالخيط الذهبي .ثم الخمري وهو قطعة قماش مربعة الشكل تنسج من خيوط الصوف الرقيقة سوداء اللون وتطرز في جوانبه الاربعة بألوان زاهية ترتديه المرأة من أعلى الرأس الى القدمين فوق الخمري مباشرة يتم وضع الزمالة والتي تكون مصنوعة من الدونتال او الفولار حيث يتم احكام كل من الخمري والزمالة أعلى الرأس بلفها بعصابة تدعى العبروق أو الحواط وهي عبارة عن قطعة قماش طويلة تكون في الغالب بيضاء وأخيرا يتم اضافة البثرور وهو حزام يتوسط خصر المرأة ومن خلاله يتم ظبط الشكل النهائي للباس .

اما البرنوس الرجالي فيعتبره ابناء بوسعادة فخر المدينة وعنوان اصالتها ذلك الموروث النسجي الضارب في التاريخ والمُحَاك بأيدي النسوة البوسعاديات المحترفات .

البرنس أو البرنوس هو عبارة عن معطف طويل يوضع فوق الاكتاف يغطي الجسم حتى القدمين به قلنسوة تغطي الرأس يكون في الغالب أبيض اللون ويوجد منه كذلك الأسود والبني .

ينسج البرنوس عبر مراحل بدءا من تجهيز الصوف أو الوبر الى عملية النسج اليدوية ، هذا الرمز الثقافي لايزال الى اليوم يعبر عن الشموخ والعلياء ولايزال يقدم كهدية تقديرية ثمينة القيمة وقد عُرِفَ بارتدائه الكثير من الشخصيات أمثال الامير عبد القادر .

أما الزربية التقليدية المنتوجة.من الصوف الخالص تلك اللوحة الفنية التصويرية التي تعكس مدى عبقرية المرأة البوسعادية وحذاقتها تعتبر ارثا ثقافيا زاخرا وشاهدا من شواهد المنطقة

حيث تنسج الزربية يدويا وتُشَكل بأشكال فسيفسائية راقية تبدعها انامل الناسجات الفنانات اللواتي يحاولن من خلال هذه الحرفة الأصيلة ابراز مايتمتعن به من خيال يُصَاغ بأصابعهن في أشكال متنوعة في غاية الدقة والذوق الفني .

ويعد الزفيطي طبقا شعبيا من أقدم الأكلات التقليدية في بوسعادة فوفق ماسردته مختلف المراجع التاريخية فقد كان موجودا منذ تأسيس المدينة من قبل سيدي ثامر بن محمد ويمتد ذلك الى اواخر القرن 15 .

للزفيطي تسميات أخرى كالمهراس والباطوط فعند سماع اكلة الزفيطي ستُذكَرُ حتما بوسعادة فهو ملازم لها وعلامة مسجلة باسمها ، يتميز الزفيطي او المهراس بمذاقة الحار جدا ومكوناته البسيطة المتوفرة في كل بيت ويقدم هذا،الطبق ساخنا في مهراس خشبي خاص ويؤكل بملاعق خشبية خاصة وقد نجحت عائلات بوسعادة في الحفاظ على هذا الموروث الشعبي منذ.خمسة. قرون ولم تطرأ عليه اي تغييرات الى الآن .

بوسعادة المدينة السخية ، الهادئة المضيافة تلك الواحة الجميلة تلك المدينة التي تنبض بالموروث الثقافي الاصيل في كل تفاصيله لاسيما اللامادي منه ,بوسعادة التي تعتبر أنموذجا في الحفاظ على موروثها وإرثها التقليدي والاخلاص له على مر العصور والسنون.

تلك المدينة الرائعة ستجد فيها ضالتك حتما فإما ان تستمع بعبق الأصالة والتقاليد أو أن تعود محملا بالهدايا عظيمة القيمة فحتما لن تفئ من هناك خال الوفاض.

شارك المقال على :