في رحاب العظماء… بقلم/ هاجر ميموني

ميرا منصوري

إنه لأمر طبيعي جدّا وأنت صغير، أن تنهض من نومك وتتناول فطورك، ثم تخرج من المنزل قاصدا المدرسة القريبة، أو أنت كبير ، تتوجه قاصدا الجامعة أو الكلية أو مدرسة عليا لتتعلّم، أو تستعمل وسيلة نقل عصريّة للوصول إليها، أو قد تسير بعض المسافة للغرض نفسه، وفي كلّ ذلك؛ وفي عصرنا قد يتمنّى كلّ طالب علم لأن تكون مدرسته أو كليّته أو معهده أو جامعته تقع في الطابق الأرضي لمسكنه، وفيها مطعم مدرسي يقدم وجباته للتلاميذ أو الطلبة، لكن الأمر لم يكن كذلك مع ذلك الطالب الذي أحب العلم حدّ الشّغف، مما جعله يقرّر الذّهاب في رحلة شاقّة ومحفوفة بالمخاطر إلى طلب العلم، ولم تثنه في ذلك قلّة الحاجة إلى المال لترتيب رحلة مريحة على وسائل النّقل المتاحة وقتها، فخرج في شهر سبتمبر من سنة 1951 لمقصده سيرا على الاقدام ، قاصدا القاهرة مرورا عبر صحراء تونس، ولم تثنه كذلك عن مقصده مشقّة السّفر وحرّ شهر سبتمبر من تلك السّنة، إلى أن وصل ورفيقه إلى ليبيا.

واعترت رحلته في المسافة المقدرّة بـ: 950 كلم بين طرابلس وبنغازي، صعوبات، وكاد يموت ورفيقه عطشا، ومن الأشياء التّي يقف عندها كلّ من قرأ عن ظروف الرّحلة، كيف تعامل مع الذّئب الهائج الذي اعترض طريقهما مهاجما، إذ استحضر هذا الطّالب ما رسخ في خلده من قراءته لكتاب الحيوان للجاحظ، فأشعل مع ما استحضره شموعا، والشّمعة ليست بذلك السّراج الوهّاج أو الفانوس القويّ لترمي بإشعاعاتها إلى مدى بعيد، وإنّما ما يصدر عنها من نور ضوئها لا يغطّي شعاعا أكبر من مساحة ما يجلس عليه الإنسان، ورغم ذلك فقد فزع الذّئب الهائج من ضوء الشموع وفرّ.

إصرار ذاك الطالب، لم يعقه أي خطب أو مطبّة واجهته ورفيقه في طريق رحلتهما إلى مصر، وتحديدا القاهرة مقرّ مقصده جامع الأزهر ليواصل الدّراسة فيه وينهل من العلوم.

وليس بالأمر السهل أن يتجشم كل الناس الصعاب، ويجابهوا الخطوب، والمتمعّن جيّدا في هذا الإصرار مع ما لقاه من مشقّة في الرّحلة، يجد نفسه أمام شخصية جموحة ذات بأس شديد لا تهاب الخطوب. إنه الطالب محمد إبراهيم بوخروبة، مُتخذ اسم هواري بومدين فيما بعد.

ما أعظمك أيّها الرّجل؛ ما عزمت ركوب خطوب الرّحلة من أجل دنيا تصيبها أو مال تجنيه أو جاه تنشده، فقد أشحت بوجهك عن كلّ هذا وأدرت له ظهرك، وعزمت فقد وفقط على تجشّم الصّعاب من أجل العلم، لقد تفوقت على أترابك في زمنك، تُرى من اتّخذته نبراسا؟ وجعلت منه منارة تهتدي بها، أم أنه لم يكن لك نبراس؟

يغلب التّرجيح على من قرأ عنك، وحلل شخصيتك بحيادية تامة، على أنّه لم يكن لك قطّ نبراس وإنّما أنت هو النّبراس وأنت هو المنارةُ. لقد وُلِدتَ في 23 أوت سنة 1932، وغادرت في سنّ العطاء بتاريــخ 27 ديسمبر 1978، فعشت عمرا قصيرا، ولم أكن شيئا يذكر حين وُلِدتَ وحين غادرت، فقد جئتُ إلى الوجود بعد وفاتك، وعرفتك وأنا صغيرة حين اقتحمت مخيالي عنوة صورتك، صورة من مشاهد وصولك إلى العاصمة في الأيام الأولى للاستقلال، وما كان اقتحامها إلاّ بسبب النّحافة التّي جلّدت قدّك الفاره، وما تركت منه إلاّ جلده يلفُّ عظامه، وإن استطاعت فعل ذلك، فإنّها لم تستطع الإنقاص من نظر عينيك الصّقري، فطرفة منه يفزع منها ويفرّ الأسد ذو القسورة، وليس الذئب ذي المكر، فلبست بغير إرادة ما أرداك نحيفا… لباس الكاريزما بنكهة رهبة حميدة.

وأنا أكبر؛ عرفت مقولة لم يسبق لكائن إنساني ومنذ نشأة الكون أن قال: “بناء دولة لا تزول بزوال الرّجال” فكيف تكون على حال غير ذلك الحال الذي شاهدت فيه صورتك وأنت تدخل العاصمة في الأيّام الأولى للاستقلال، فقد كنت تحمل همّ أمّة بأكملها ! بل تحمل همّ أكثر من أمّة!

كم كنت قاسيا على نفسك، لم تغيرك ملذات الحياة الدّنيا، فعشت فيها لغيرك، وما سكنت قلوبنا يا هواري بومدين، إلا لهذا السبب.

كم أنت عظيم يا هواري بومدين، حتى وأنت راحل عنا، ما زالت مآثرك ترددها الحناجر، خاصة في هذا الزمن الرديء، لقد تعلمنا منك وأنت طالب كيفية التعامل مع الذئاب، ولو كنت حيا بيننا لتعلمنا منك كيفية التعامل مع الضباع كذلك.

بقلم/هاجر ميموني

شارك المقال على :