الجزائر- لم يكن استشهاد أبي عبيدة، الناطق العسكري باسم كتائب الشهيد عز الدين القسام، حدثًا عابرًا في سياق حرب مفتوحة، بل محطة فاصلة في تاريخ الإعلام المقاوم الفلسطيني، ونقطة اختبار عميقة لذاكرة الصراع وسرديته. فبرحيل الرجل الذي ظلّ ملثّمًا أكثر من واحد وعشرين عامًا، لا تغيب شخصية فردية فحسب، بل يُطوى فصل كامل من فصول “حرب الرواية” التي شكّلت أحد أعمدة المواجهة مع الاحتلال الصهيوني.
على امتداد عقدين، تحوّل أبو عبيدة من مجرد متحدث باسم جناح عسكري إلى ظاهرة رمزية مركّبة، تجاوزت حدود التنظيم، واخترقت الوعي الجمعي الفلسطيني والعربي والإسلامي، وفرضت حضورها حتى داخل المجتمع الصهيوني ذاته. لقد كان الصوت الذي سبق الحدث، والكلمة التي نافست الطائرة، والبيان الذي أربك غرف القرار.
هوية في الظل… ورمز في العلن
اسمه الحقيقي حذيفة سمير الكحلوت، وُلد في 11 شباط/فبراير 1984 في المملكة العربية السعودية، قبل أن تستقر عائلته في مخيم جباليا شمالي قطاع غزة، أحد أكثر بقاع الأرض كثافة ومعاناة ومقاومة. هناك، تشكّلت ملامح شخصيته الأولى، في بيئة لا تفصل بين اليومي والسياسي، ولا بين الحياة والمواجهة.
تلقّى تعليمه في مدارس وكالة “أونروا”، وبرز مبكرًا في النشاط الطلابي داخل “الكتلة الإسلامية”، الذراع الطلابية لحركة حماس. تخرّج من الثانوية العامة بتفوق علمي عام 2002، ثم تنقّل بين دراسة الهندسة وأصول الدين، قبل أن يحصل عام 2013 على درجة الماجستير من كلية أصول الدين بالجامعة الإسلامية في غزة، عن أطروحة حملت عنوان: “الأرض المقدسة بين اليهودية والمسيحية والإسلام”، في دلالة واضحة على وعيه العميق بجذور الصراع، وأبعاده الدينية والتاريخية والسردية.
من الميدان إلى المنصة الإعلامية
التحق أبو عبيدة مبكرًا بصفوف كتائب القسام مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية عام 2000، وتدرّج في مهامها الميدانية والإعلامية. وكان ظهوره الإعلامي الأول في تشرين الأول/أكتوبر 2004، خلال مؤتمر صحفي عُقد في مسجد “النور” شمالي القطاع، إبان معركة “أيام الغضب”.
ومع الانسحاب الصهيوني من قطاع غزة عام 2005، حمل رسميًا صفة الناطق الإعلامي باسم كتائب القسام، ليبدأ مسارًا غير مسبوق في تاريخ الحركات المسلحة المعاصرة: بناء خطاب عسكري إعلامي منضبط، مركزي، عالي التأثير، دون صورة ثابتة للمتحدث.
الصوت كسلاح استراتيجي
لم يكن خطاب أبي عبيدة خطاب تعبئة تقليديًا، بل جاء أقرب إلى “البيان العسكري المحسوب”، حيث الاقتصاد في الكلمات، والدقة في التوقيت، والتوازن بين الرسالة العسكرية والتأثير النفسي. كان يدرك أن كل كلمة تُقال تُوزن بميزان الذهب، وأن أي انزلاق لغوي قد يتحول إلى ثغرة استراتيجية.
شكّل أبو عبيدة الواجهة الصوتية الرسمية للميدان خلال حروب غزة المتعاقبة، من “الفرقان” (2008–2009) إلى “العصف المأكول” (2014)، ثم “سيف القدس” و”طوفان الأقصى”، حيث تولّى إعلان الخسائر، وتحديد قواعد الاشتباك، وتوجيه الرسائل بدقة محسوبة إلى الداخل الفلسطيني، والرأي العام العربي والاسلامي، والعدو على حد سواء، جامعًا بين الخطاب العسكري والانضباط الإعلامي في لحظة صراع مفتوحة على كل الجبهات.
وكان إعلان أسر الجندي الصهيوني شاؤول آرون عام 2014 إحدى أكثر لحظاته تأثيرًا، حيث أحدث التصريح صدمة داخل المجتمع الصهيوني، وأعاد رسم ميزان الردع المعنوي، إلى درجة أن قطاعات واسعة داخل الكيان باتت تتابع خطاب أبي عبيدة وتتعامل معه كمصدر أكثر مصداقية من قياداتها السياسية والعسكرية.
اللثام… فلسفة لا تنكّر
حرص أبو عبيدة على البقاء ملثّمًا طوال مسيرته، رغم محاولات الاحتلال المتكررة لكشف هويته. غير أن اللثام لم يكن مجرد إجراء أمني، بل خيارًا رمزيًا واعيًا، يعكس فلسفة المقاومة في إنكار الذات، وتقديم الجماعة على الفرد، والفكرة على الشخص.
وقد أكد مقرّبون منه أن هويته كانت معروفة في محيطه الاجتماعي، لكن الاتفاق الضمني كان احترام هذا الخيار، باعتباره جزءًا من “أخلاق المقاومة” قبل أن يكون من تكتيكاتها.
مطاردة دائمة ونهاية بالاستهداف
كان أبو عبيدة، منذ عام 2002، هدفًا دائمًا لمحاولات الاغتيال الصهيونية، ومع ذلك ظل صوته حاضرًا في كل معركة، لا يغيب عن الميدان ولا عن الوعي الجمعي، إلى أن أعلنت كتائب القسام استشهاده في 29 ديسمبر/كانون الأول 2025، إثر استهدافه في حي الرمال بمدينة غزة، في عدوان أودى أيضًا بحياة زوجته وثلاثة من أبنائه: ليان، منة الله، ويمان، في واحدة من أكثر صور الثمن الإنساني قسوة ووجعًا.
ما بعد الاستشهاد: المعنى الذي لا يُغتال
برحيل أبي عبيدة، تدخل المقاومة الفلسطينية مرحلة جديدة من التحدي الرمزي، إذ لم يكن الرجل مجرد ناطق باسم الميدان، بل شكّل ذاكرة صوتية حية للمقاومة، ومعيارًا أخلاقيًا صارمًا للخطاب المقاوم في زمن الفوضى الإعلامية. غير أن هذه الأرض التي أنجبت أبا عبيدة لم تكن يومًا عقيمة؛ فهي أرض ولّادة للرجال والرموز، وتراكم التجربة، وعمق العقيدة، ما يجعل الرهان معقودًا على خلفٍ صالح يحمل المشعل بذات الانضباط والصدق والمسؤولية، ويواصل المسار لا بوصفه استنساخًا لشخص، بل امتدادًا لنهج راسخ لا ينكسر.
ما هو مؤكّد أن أبا عبيدة لم يكن لغزًا، كما حاول الاحتلال تصويره، بل كان ابن غزة، وصوتها، وضمير معركتها. وحين يغيب أمثال هؤلاء، لا يُقاس حضورهم بما تركوه من صور، بل بما رسّخوه من معانٍ.
لقد انتصر أبو عبيدة، في حياته وبعد استشهاده، لمعركة واحدة جوهرية: أن يكون الصوت، حين يكون صادقًا، أقوى من الصورة… وأبقى من الجسد.
﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾
صدق الله العظيم
