ليس من المبالغة القول إن المدرسة العمومية في المغرب باتت، خلال فصل الشتاء، فضاءً محفوفًا بالمخاطر بدل أن تكون ملاذًا آمناً للتعلم. فإجبار آلاف التلاميذ على مغادرة منازلهم في ساعات الفجر الأولى، وسط برد قارس وظلام دامس، ليس مجرد خلل تقني في التوقيت المدرسي، بل اختيار سياسي يعكس انفصال القرار التربوي عن الواقع الاجتماعي.
في كل شتاء، يتكرر المشهد ذاته: أطفال يخرجون من بيوتهم قبل شروق الشمس، حقائبهم أثقل من أجسادهم، يقطعون أزقة مظلمة وطرقات غير آمنة، في قرى تفتقر للإنارة، وأحياء هامشية غائبة عن أي تصور للحماية. ومع ذلك، تصر وزارة التربية الوطنية على التمسك بتوقيت موحد، وكأن المغرب كتلة جغرافية واحدة، بلا فوارق مناخية ولا تفاوتات مجالية.
مدرسة بلا حس اجتماعي
السؤال الحقيقي ليس: هل التوقيت المدرسي مناسب أم لا؟
بل: كيف تُتخذ القرارات التي تمس الحياة اليومية لملايين الأطفال دون اعتبار لسلامتهم؟
حين يُجبر تلميذ في جبال الأطلس أو في قرية نائية على مغادرة بيته في الظلام، فذلك ليس “تنظيمًا للزمن المدرسي”، بل تعريضٌ مقصود لأطفال للهشاشة والخطر. وحين يُطلب من أساتذة وإداريين مباشرة عملهم في ظروف قاسية دون أي تكييف زمني، فذلك تعبير صارخ عن استخفاف بالعنصر البشري داخل المدرسة العمومية.
أي جدوى تربوية في التجمّد صباحًا؟
أي مردودية دراسية يُنتظر تحقيقها من تلميذ يصل إلى القسم وهو مرهق، متجمد، خائف، لم يرَ ضوء النهار بعد؟
وأي حديث عن “تحسين جودة التعليم” يمكن تصديقه، بينما يتم تجاهل أبسط الشروط النفسية والجسدية للتعلم؟
التجربة اليومية أثبتت أن هذا التوقيت يضرب التركيز، يفاقم الغياب، ويزيد من الهدر المدرسي، خصوصًا في العالم القروي. ومع ذلك، لا نسمع سوى لغة الصمت أو التبرير البيروقراطي، وكأن المدرسة أرقام وجداول، لا أطفال من لحم ودم.
مركزية القرار… ولا صوت للميدان
اللافت أن الوزارة، رغم كل هذه المعاناة المتكررة، ترفض منح الأكاديميات والمؤسسات التعليمية أي هامش مرونة حقيقي لتكييف التوقيت حسب الخصوصيات المحلية. هاجس التحكم المركزي ينتصر مرة أخرى على منطق الحكامة التربوية، وعلى مبدأ ربط المسؤولية بالواقع.
فكيف يمكن الحديث عن “مدرسة الإنصاف” بينما يُفرض توقيت واحد على تلميذ في الدار البيضاء وآخر في قرية جبلية تنخفض فيها الحرارة إلى ما دون الصفر؟
وكيف تُرفع شعارات “العدالة المجالية” بينما يُترك أطفال الهامش يواجهون البرد والظلام وحدهم؟
حين تصبح المدرسة عبئًا إضافيًا
في بلد يعاني أصلًا من الفقر، وبعد المسافات، وهشاشة النقل المدرسي، يصبح التوقيت الشتوي الحالي عقوبة إضافية تُفرض على الفئات الأكثر ضعفًا. وهو ما يطرح مسؤولية أخلاقية وسياسية على الدولة، قبل أن يكون مجرد نقاش تقني داخل أروقة الوزارة.
إن الإصرار على هذا التوقيت، رغم كل التحذيرات، يكشف أن المدرسة العمومية لا تزال تُدار بعقل إداري بارد، لا يرى في التلميذ سوى رقم في منظومة، لا إنسانًا له احتياجات وحقوق.
الخلاصة: قرار بسيط.. لكنه كاشف
تعديل التوقيت المدرسي في الشتاء ليس مستحيلًا، ولا مكلفًا، ولا يحتاج إلى لجان وخطط خمسية. لكنه يحتاج فقط إلى إرادة سياسية تعترف بأن سلامة الأطفال أولوية.
أما الاستمرار في هذا العبث الزمني، فليس سوى دليل إضافي على أن المدرسة العمومية في المغرب تُستنزف يومًا بعد يوم، لا فقط بنقص الموارد، بل بغياب الحس الاجتماعي في اتخاذ القرار.
