شهدت السنوات الأخيرة جدلًا واسعًا حول مدى فعالية التصنيفات الجامعية الدولية في قياس جودة التعليم والبحث العلمي، إذ تتصدر هذه التصنيفات، مثل Times Higher Education وQS وShanghaiRanking، المشهد الأكاديمي العالمي، معتمدة على مجموعة من المؤشرات الكمية التي لا تعكس بالضرورة جودة البحث أو أثر الجامعات في المجتمع.
ويُعد قرار جامعة السوربون الفرنسية بالانسحاب من التصنيفات الجامعية الدولية محطة فارقة في الفكر الجامعي المعاصر، إذ يتجاوز كونه إجراءً إداريًا مجردًا ليصبح بيانًا فلسفيًا ومعرفيًا عن استقلالية الجامعات ورفض الهيمنة السوقية على مؤشرات الجودة الأكاديمية.
ويكشف هذا القرار عن قناعة راسخة بأن الجودة الجامعية لا يمكن اختزالها في أرقام وإحصائيات، بل ترتبط بالبحث العلمي الحر، والحرية الفكرية، والأثر الثقافي والاجتماعي للمؤسسة التعليمية.
إن هذا السياق يتيح للباحثين في الجزائر فرصة التأمل النقدي في علاقة جامعاتنا بهذه التصنيفات الدولية، في ظل تحديات عديدة تواجه النظام الجامعي الوطني، منها محدودية الموارد، ضعف البنية التحتية البحثية، وعدم تمثيل اللغة العربية بالشكل المناسب في قواعد البيانات العالمية.
ومن هنا تبرز الحاجة إلى تطوير مقاربة نقدية وطنية لتقييم الجامعات، تراعي خصوصيات السياق الجزائري الثقافي والاجتماعي واللغوي، وتعيد الاعتبار للجامعة كمؤسسة فكرية ومجتمعية، وليس مجرد أداة رقمية للتصنيف.
واقع الجامعات الجزائرية أمام التصنيفات العالمية
تواجه الجامعات الجزائرية مجموعة من التحديات الجوهرية التي تجعل الاعتماد على التصنيفات الدولية أحيانًا غير عادل، ويمكن تلخيص أبرز هذه التحديات فيما يلي:
1 . الفجوة اللغوية والمعرفية:
يُنشر جزء كبير من الإنتاج العلمي الجزائري باللغة العربية، ما يقلل من ظهوره في قواعد البيانات العالمية مثل Web of Science وScopus، والتي تعتمدها التصنيفات الدولية.
كما أن ضعف الترجمة إلى اللغات الأجنبية، ولا سيما الإنجليزية، يحد من انتشار هذه البحوث دوليًا، ويجعل الجامعات الجزائرية تظهر بأداء أقل من قيمتها الأكاديمية الفعلية.
2. القيود البحثية والتمويلية:
تعاني الجامعات الجزائرية من محدودية الموارد المالية وضعف البنية التحتية البحثية، ما يحد من قدرتها على إنتاج بحوث بكميات كبيرة أو على مستوى عالي من التخصصية، رغم الجودة العلمية والأثر المجتمعي لتلك البحوث.
3. اختزال الجودة في مؤشرات كمية:
غالبًا ما تركز التصنيفات العالمية على مؤشرات قابلة للقياس مثل عدد المنشورات أو الاستشهادات العلمية، متجاهلة الأثر الاجتماعي والثقافي والتربوي الذي توفره الجامعات، لا سيما في العلوم الإنسانية والاجتماعية والفنون.
نتيجة لهذه العوامل، تظهر الجامعات الجزائرية في التصنيفات الدولية بأداء أقل من واقعها الأكاديمي والمعرفي، ما يخلق فجوة بين المعرفة المجتمعية والواقع البحثي وبين التقييم الرقمي العالمي.
الدروس المستفادة من تجربة السوربون
تتيح تجربة السوربون الفرنسية مجموعة من المداخل الفكرية والتنظيمية التي يمكن للجامعات الجزائرية الاستفادة منها:
1. إعادة تعريف الجودة الأكاديمية:
الانتقال من التركيز على الكمّ إلى التركيز على جودة البحث العلمي وأثره الاجتماعي والثقافي، مع مراعاة الأبعاد الإنسانية والمعرفية، باعتبار الجامعة فضاءً للحرية الفكرية والإبداع البحثي.
2. تبني فلسفة العلوم المفتوحة:
نشر البحوث في قواعد بيانات مفتوحة يضمن الوصول الحر للمعرفة، ويعزز الشفافية والمصداقية الأكاديمية، ويمكّن الباحثين الجزائريين من الانفتاح على الفضاء العلمي العالمي دون الانغلاق على مؤشرات السوق الدولية.
3. استقلالية السياسات الأكاديمية:
رفض الخضوع لمؤشرات تجارية لا تعكس خصوصية السياق المحلي والثقافي للجامعة، وإعادة الاعتبار للجامعة كمؤسسة فكرية ومجتمعية، قادرة على تقرير معاييرها بنفسها.
يعكس هذا النهج رغبة في تحرير تقييم الجامعة من المعايير الخارجية، وتمكين الجامعات الجزائرية من تطوير مؤشرات محلية أو إقليمية تراعي التنوع اللغوي والمعرفي، والأثر المجتمعي للبحث العلمي.
نحو نموذج جزائري بديل للتقييم الجامعي
انطلاقًا من الدروس المستفادة، يمكن تصور إطار تقييم بديل للجامعات الجزائرية يقوم على العناصر الأساسية التالية:
1. الأثر البحثي الوطني والإقليمي:
قياس مساهمة البحوث العلمية في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، بعيدًا عن مؤشرات الاستشهادات الدولية فقط، مع التركيز على المشروعات البحثية ذات الصلة بواقع المجتمع المحلي والوطني.
2. الابتكار التعليمي:
تقييم جودة البرامج الأكاديمية وطرق التدريس، ومدى استفادة الطلبة من التعليم النوعي، مع الاهتمام بالابتكار في المناهج والتقنيات التعليمية والتربوية.
3. الانفتاح والعلوم المفتوحة:
تشجيع نشر البحوث والبيانات العلمية على منصات مفتوحة لضمان الشفافية وتبادل المعرفة، بما يعزز رؤية الجامعة كمركز فكري عالمي متواصل.
4. الاستدامة المؤسسية:
تقييم قدرة الجامعات على إدارة الموارد البشرية والمادية بكفاءة، وضمان استمرارية الأنشطة البحثية والتعليمية، بما يشمل التخطيط الاستراتيجي وتطوير الكوادر الأكاديمية.
5. البعد المجتمعي والثقافي:
النظر في مساهمة الجامعات في المشاريع الثقافية والاجتماعية، وتكوين جيل من الباحثين والمفكرين القادرين على خدمة المجتمع، مع توثيق أثر الجامعات في تعزيز الهوية الوطنية والقيم الإنسانية.
مقارنة نقدية بين التصنيفات العالمية ونموذج التقييم الجزائري
يمكن أن تساعد المقارنة الوصفية بين التصنيفات الجامعية العالمية ونموذج التقييم الجزائري المقترح على إبراز الفجوات والفرص، كما يلي:
1. المنهجية المستخدمة في التقييم:
تعتمد التصنيفات العالمية غالبًا على مؤشرات كمية واضحة مثل عدد المنشورات، الاستشهادات العلمية، ونسبة الطلاب الدوليين، بينما يقوم النموذج الجزائري على تقييم شامل يأخذ في الاعتبار الأثر البحثي الوطني والإقليمي، والابتكار التعليمي، والمساهمات المجتمعية والثقافية، ما يعكس توازنًا بين الكم والنوع.
2. الأبعاد اللغوية والمعرفية:
تميل التصنيفات العالمية إلى التركيز على الإنتاج البحثي المنشور باللغة الإنجليزية، وهو ما يحد من ظهور البحوث المندرجة في اللغات المحلية مثل العربية والأمازيغية. أما النموذج الجزائري، فيقترح الاعتراف بالإنتاج العلمي باللغات الوطنية، وتشجيع الترجمة والانفتاح على العلوم المفتوحة، بما يعزز حضور الجامعات الجزائرية على الصعيدين الوطني والإقليمي دون التبعية للمؤشرات العالمية.
3. الأثر المجتمعي والثقافي:
غالبًا ما تتجاهل التصنيفات العالمية الدور المجتمعي والثقافي للجامعة، بينما يمنح النموذج الجزائري أولوية لتقييم مساهمة الجامعات في التنمية الاجتماعية، وحفظ التراث الثقافي، وتعزيز الهوية الوطنية، وتخريج جيل من الباحثين القادرين على خدمة المجتمع.
4. الاستقلالية الأكاديمية:
تصنيفات السوق العالمية تفرض نوعًا من القوالب الموحدة على الجامعات، ما قد يحد من حرية اختيار السياسات التعليمية والبحثية. بالمقابل، يركز النموذج الجزائري على استقلالية الجامعة في وضع معاييرها الخاصة، بما يتوافق مع رؤيتها الوطنية واستراتيجياتها الفكرية، بعيدًا عن أية ضغوط خارجية.
5 . الشفافية والانفتاح على المعرفة:
يشجع النموذج الجزائري المقترح على تبني فلسفة العلوم المفتوحة، ونشر البيانات البحثية على منصات مفتوحة لضمان الوصول الحر للمعرفة، وتعزيز المصداقية العلمية، في حين أن التصنيفات العالمية لا توفر بالضرورة هذا الانفتاح وتظل مرتبطة بمعايير مؤسسية مغلقة.
توضح هذه المقارنة أن النموذج الجزائري لا يسعى إلى رفض التقييم، بل إلى تطوير مقاربة وطنية شاملة وعادلة تعكس خصوصية الجامعات الجزائرية، وتوازن بين الجودة الأكاديمية، الأثر الاجتماعي، الاستدامة المؤسسية، والانفتاح الفكري.
البعد الفلسفي للانسحاب
يمكن النظر إلى انسحاب جامعة السوربون من التصنيفات الجامعية العالمية باعتباره تمردًا معرفيًا رفيع المستوى على منطق السوق الأكاديمي، إذ يؤكد أن الجامعة ليست سلعة تجارية، ولا يمكن اختزالها في مؤشرات كمية فقط، بل هي فضاء للحرية الفكرية والبحثية والإبداع العلمي.
بالنسبة للجامعات الجزائرية، يطرح هذا الانسحاب إعادة النظر في السيادة الأكاديمية: فالجامعة الوطنية مطالبة بتقرير معاييرها وفق رؤيتها واستقلالها، بعيدًا عن مؤشرات السوق الدولية، وإعطاء الأولوية للأثر المجتمعي والإنساني للبحث العلمي والتعليم. كما يمثل دعوة لتطوير فلسفة تعليمية ترتكز على المعرفة المتعددة اللغات والتعددية الثقافية، مع الالتزام بخدمة المجتمع الوطني والإقليمي.
خاتمة:
يُجسد قرار جامعة السوربون بالانسحاب من التصنيفات العالمية نموذجًا للجامعة المستقلة والمفكرة، التي تعرف قيمتها بنفسها، ولا تسمح لأي مؤشر خارجي أن يقيمها بما لا يعكس جوهر رسالتها الأكاديمية والمعرفية.
وفي ضوء هذا الدرس، يُدعى النظام الجامعي الجزائري إلى إعادة تعريف معايير الجودة الأكاديمية على أسس معرفية وإنسانية، توازن بين البحث العلمي والتأثير المجتمعي، وتمنح الجامعة حرية تقرير مصيرها الأكاديمي وفق رؤيتها الوطنية الخاصة.
فالانسحاب، في هذا السياق، ليس غيابًا عن التقييم، بل تمكين للجامعة الجزائرية من تقرير مسارها الفكري والمعرفي، بعيدًا عن الهيمنة السوقية، ومنحها القدرة على بناء نموذج تقييم يعكس خصوصياتها الثقافية والمعرفية والفكرية.
أ.د. عمّار بن لقريشي
