لم تعد الجزائر تتحدّث عن المستقبل، بل بدأت تبنيه فعلاً، بحجم دولة تعرف ما تريد وتعرف كيف تصل إليه، في لحظة إقليمية ودولية متقلّبة، تقف الجزائر بوصفها الرقم الصعب في معادلة المرحلة المقبلة، وهي تعيد رسم خريطتها الاقتصادية بعيداً عن الذهب الأسود، مقتحمةً عالم الغذاء والمعادن، إنّه السلاح الجديد الذي يحكم علاقات الأمم اليوم.
ففي قلب الصحراء الجزائرية، لم تُكتب رواية جديدة للاقتصاد فحسب، بل كُتبت معادلة هندسية تُربك حسابات الموجودين على الساحة: خط سكة حديدية بطول 1000 كيلومتر، أنجز في 18 شهراً فقط، يربط منجم غار جبيلات بولاية بشار، في أول انتقال تاريخي لخام الحديد منذ الاستقلال نحو غرب البلاد، هذا المشروع ليس عملاً لوجيستياً عادياً، بل إعلان واضح عن ميلاد قطب وطني للحديد والصلب قادر على منافسة كبار العالم، وإعادة إدماج الجزائر بقوة في سوق المعادن الإستراتيجية.
غار جبيلات، الذي ظلّ مجمّداً لعقود، تحوّل اليوم إلى ورشة كبرى لمشروع ضخم يعيد للجزائر مكانتها الطبيعية كقوة معدنية عالمية؛ فالحديد لم يعد مجرد مادة للصناعة، بل ورقة جيو-اقتصادية قادرة على صناعة النفوذ، وفي عالم يتغير بسرعة، يحتاج من يبني قوته الدفاعية والصناعية إلى الحديد كما يحتاج إلى الطاقة، وهنا بالضبط تعود الجزائر إلى الخريطة لا كمصدر خام فحسب، بل كفاعل يملك مشروعاً وطنياً متكاملاً.
وبالتوازي، لا تتحرك القاطرة الجزائرية وحدها نحو الحديد، بل نحو كنوز أخرى مدفونة في باطن الصحراء؛ بلاد الحدبة تستعد للتحوّل إلى واحد من أكبر أقطاب الفوسفات والأسمدة في المنطقة، بفضل قفزة نوعية غير مسبوقة: من إنتاج 2.5 مليون طن إلى 10.5 مليون طن سنوياً. إنها ليست زيادة في الأرقام فقط، بل انتقال إلى مستوى جديد من التأثير في أمن الغذاء العالمي، ففي عالم تتغير فيه أولويات الدول من النفط إلى الغذاء، تدخل الجزائر من الباب الواسع كمموّن موثوق واستراتيجي، بفضل امتلاكها أحد أهم مفاتيح إنتاج الأسمدة التي تمثل أساس الزراعة في القرن 21.
ومع هذين المشروعين العملاقين—غار جبيلات وبلاد الحدبة—ترسم الجزائر ملامح اقتصاد جديد، اقتصاد لا يقوم على برميل النفط، بل على موارد ثابتة، غنية، ومستدامة؛ اقتصاد يُتوقع أن يضخّ بين 15 و20 مليار دولار سنوياً من العملة الصعبة خارج قطاع المحروقات، لأول مرة منذ عقود، تمتلك الجزائر مشروعاً حقيقياً لفكّ الارتباط عن ريع النفط، وللتحويل التدريجي لاقتصادها نحو قاعدة إنتاجية مستقرة ومحمية من تقلبات الأسواق.
والعنصر الأهم، وربما الأكثر إدهاشاً للمراقبين، هو أن كل هذا يتمّ بصفر مديونية خارجية. الجزائر، التي رفضت الانصياع لوصفات صندوق النقد الدولي في التسعينيات، وأصرت على استقلال قرارها المالي، تثبت اليوم أنها قادرة على بناء اقتصاد جديد من مواردها الذاتية؛ لا تبعية، لا قروض مذلّة، لا شروط مفروضة من الخارج، إنها تجربة اقتصادية غير مسبوقة في العالم العربي والقارة الإفريقية، تعكس رؤية دولة تضبط بوصلتها بدقة، وتعرف أن الاستقلال الاقتصادي هو أساس السيادة السياسية.
ما يجري اليوم في الجزائر ليس مجرد مشاريع عملاقة، بل تحوّل تاريخي، إنها نقلة نوعية تنقل البلاد من مرحلة لطالما ارتبطت بأسعار النفط إلى مرحلة جديدة قوامها الإنتاج الحقيقي، والاقتصاد التحويلي، واستغلال الثروات الطبيعية بشكل عقلاني وعصري، مشروع الجزائر اليوم لا يقوم على الشعارات، بل على القطارات التي تمشي فوق رمال الصحراء، وعلى المناجم التي تستيقظ من سباتها، وعلى مصانع الصلب، والأسمدة، والميكانيك، والتكنولوجيا.
إنها الجزائر في نسختها الجديدة: دولة تصنع مستقبلها بيدها، وتعرف أن الزمن لم يعد زمن النفط وحده، بل زمن الغذاء والمعادن، وبذلك تتحول الصحراء من فضاء جغرافي هادئ إلى منصة استراتيجية لبناء قوة اقتصادية صاعدة.
الجزائر دخلت فعلاً مرحلة إعادة التأسيس الاقتصادي وما يحدث اليوم ليس امتداداً للماضي، بل بداية لقرن جزائري جديد بالكامل.
