الخميس 15 ماي 2025

الجزائر وسلوفينيا: بناء علاقات جديدة في قلب أوروبا… بقلم آمنة سماتي

نُشر في:
بقلم: آمنة سماتي
الجزائر وسلوفينيا: بناء علاقات جديدة في قلب أوروبا… بقلم آمنة سماتي

في زمن يعاد فيه رسم خرائط النفوذ وتنهار فيه اليقينيات القديمة تحت وقع أزمات متلاحقة، لا تعود الشراكات السياسية محكومة فقط بالجوار الجغرافي أو الموروث التاريخي، بل تُبنى على أساس المصالح المتقاطعة، والرؤية السيادية، والهواجس المشتركة.

من هذا المنطلق، تبرز العلاقة المتنامية بين الجزائر وسلوفينيا كأحد تجليات التحوّل العميق في مقاربة الجزائر لعلاقاتها الدولية: تحوّل يُغادر فضاء التبعية الكلاسيكية نحو أوروبا الغربية، ليستكشف آفاقًا جديدة في أوروبا الوسطى، حيث تتحرك سلوفينيا كدولة صغيرة في الظل، لكنها فاعلة في مساحات متشابكة من السياسة والطاقة والنقل.

كيف تنسج الجزائر هذه الخيوط الجديدة خارج دوائرها التقليدية؟ وما الذي يجعل من سلوفينيا – رغم بعدها الجغرافي – شريكًا محتملًا في زمن ترتسم فيه معالم نظام عالمي جديد؟

روبورتاج: آمنة سماتي

على تخوم المتوسط والألب: بداية تقارب لم يكن على الخريطة
لم تكن العلاقات الجزائرية–السلوفينية تحظى بحضور فعّال في أجندة الدبلوماسية الثنائية طيلة العقود الماضية، وظلّ التعاون مقتصرًا على الإطار المتعدد الأطراف داخل المنظمات الدولية، دون أن يتحوّل إلى شراكة استراتيجية واضحة. لكن في مارس 2024، شهدت العاصمة الجزائر تحولًا لافتًا حين أعلنت وزيرة خارجية سلوفينيا “تانيا فايون” — خلال زيارتها الرسمية إلى الجزائر — عن توقيع خمس اتفاقيات شملت مجالات الأمن والتكوين والتعليم العالي والسياحة والنقل البحري، مؤكدة أن “الجزائر تمثل بوابة استقرار ومصداقية في منطقة المتوسط” حسب ما جاء في تصريحاتها التي نقلتها وكالة الأنباء الجزائرية بتاريخ 14 مارس 2024.

وجاءت هذه الزيارة في سياق تحضيري لاجتماع اللجنة المشتركة الأولى بين البلدين، التي التأمت في الجزائر شهر افريلمن نفس السنة، حيث شدّد الأمين العام لوزارة الخارجية الجزائرية، عمار بلاني، على أن “هذا الحوار الثنائي يشكّل لبنة أولى في بناء علاقة متوازنة طويلة الأمد مع بلد صديق”، وذلك حسب ما ورد في بيان رسمي نشره الموقع الإلكتروني للوزارة يوم 5 افريل2024.

هذا الحراك الجديد في العلاقات لا يمكن فصله عن التحولات الجيوسياسية العالمية منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية سنة 2022، والتي دفعت دولًا أوروبية إلى البحث عن مصادر طاقة بديلة موثوقة. الجزائر، التي اعتُبرت وفق تقرير للمعهد الأوروبي للعلاقات الدولية صدر في بروكسل يوليو 2023 بأنها “الشريك الطاقوي الأكثر استقرارًا على الضفة الجنوبية”، بدأت تتحرّك خارج الدائرة التقليدية نحو دول أوروبا الوسطى، حيث تمثل سلوفينيا نقطة تقاطع استراتيجية بين فضاءات البلقان، النمسا، وشمال إيطاليا.

عبر بوابة سلوفينيا: الجزائر تنوّع تحالفاتها في ظل التغيرات العالمية
شهدت السياسة الخارجية الجزائرية منذ عام 2019 تحولًا كبيرًا، حيث بدأت البلاد في توسيع دائرة شركائها الدوليين بعيدًا عن المحور التقليدي الذي كان يهيمن عليه الاتحاد الأوروبي، خصوصًا فرنسا وإيطاليا. هذا التحول لم يكن مجرد نتيجة لتغيير في الدبلوماسية الجزائرية، بل كان أيضًا رد فعل استراتيجي على مجموعة من المتغيرات الدولية والإقليمية، أبرزها الأزمة الأوكرانية التي أظهرت هشاشة التوازنات التقليدية في القارة الأوروبية. الجزائر، التي تتمتع بموقع جيوستراتيجي هام وموارد طاقة ضخمة، أدركت أهمية التنويع في علاقاتها، مما دفعها إلى بناء شراكات مع دول تقع خارج الدائرة التقليدية، مثل سلوفينيا، التي كانت في البداية غائبة عن الأجندة الدبلوماسية الجزائرية.

سلوفينيا، رغم حجمها الصغير، تمثل نقطة استراتيجية بالغة الأهمية في قلب أوروبا الوسطى. بفضل موقعها الجغرافي، وعضويتها في الاتحاد الأوروبي ومنظمة شنغن، تقدم سلوفينيا للجزائر بوابة جديدة نحو الأسواق الأوروبية الشرقية، بالإضافة إلى دورها كمركز للطاقة المستدامة، ما يجعلها شريكًا مثاليًا في سياق التحولات العالمية في قطاع الطاقة. وفقًا لما ذكره الدبلوماسي الجزائري السابق علي بن سعيد في حديثه مع وكالة الأنباء الجزائرية (16 افريل2024)، “سلوفينيا تعد نقطة عبور مهمة لموارد الطاقة الجزائرية نحو أوروبا الشرقية، خصوصًا في ظل سياسة الجزائر الطموحة لتوسيع حصتها في أسواق الطاقة العالمية.”

بالإضافة إلى ذلك، جاءت هذه التقاربات في الوقت الذي بدأت فيه الجزائر تبحث عن تنويع استثماراتها وتقليص اعتمادها على الشركاء التقليديين، وهو ما انعكس في رغبتها في بناء شراكات استراتيجية مع دول مثل سلوفينيا، التي تتمتع بمصداقية كبيرة في الاتحاد الأوروبي. هذا التوجه يعكس استراتيجية جزائرية طويلة الأمد لتعزيز السيادة الاقتصادية والسياسية، وتحقيق توازن في علاقاتها الدولية بعيدًا عن الانحياز لأية تكتلات كبرى. كما قال السفير الجزائري في ليوبليانا، عبد الرحمن بن سعيد في تصريح خاص لـ “المعهد الجزائري للدراسات الاستراتيجية” (مارس 2024): “الجزائر تسعى لتوسيع نطاق تأثيرها في أوروبا الشرقية، وسلوفينيا تقدم لنا هذه الفرصة بسبب موقعها المتقدم ومصداقيتها في المعاملات الدولية.”
هذا التحول الاستراتيجي ليس مجرد صدفة، بل هو نتيجة لإدراك الجزائر أهمية استعادة جزء من مرونتها الجيوسياسية. عبر سلوفينيا، يمكن للجزائر أن تعزز موقفها في قضايا أساسية مثل الطاقة، التجارة، والسياسة الدولية، ما يجعلها شريكًا محوريًا في بناء مستقبل أكثر استقرارًا في المنطقة الأوروبية.
آفاق الشراكة الاقتصادية الجزائرية–السلوفينية
تعتبر الشراكة الجزائرية–السلوفينية في المجال الاقتصادي والتجاري بمثابة خطوة استراتيجية لفتح آفاق جديدة من التعاون في وقت تحاول فيه الجزائر تعزيز تنوع شراكاتها الدولية. تتعدى هذه الشراكة مجرد اتفاقيات شكلية إلى تعاون حقيقي يمكن أن يُحدث فارقًا في العديد من المجالات، خاصة في ظل التوجهات العالمية الحالية نحو تقليل الاعتماد على الشركاء التقليديين.
بالنظر إلى مكانة سلوفينيا كمركز اقتصادي في قلب أوروبا، فإن الجزائر، التي تسعى لتوسيع نطاق صادراتها بعيدًا عن أسواقها التقليدية، ترى في سلوفينيا بوابة جديدة نحو الأسواق الأوروبية الشرقية. الميزة الكبرى لهذا التعاون تكمن في قدرة سلوفينيا على تسهيل وصول المنتجات الجزائرية إلى أسواق الاتحاد الأوروبي التي تضم أكثر من 500 مليون مستهلك.
التجارة والاستثمار
من أهم المجالات التي يمكن أن تستفيد منها الجزائر من شراكتها مع سلوفينيا هو زيادة حجم التبادل التجاري. سلوفينيا، التي تعتبر واحدة من الاقتصادات الأكثر استقرارًا في وسط أوروبا، تتمتع بنظام مصرفي متطور وبنية تحتية قوية تجعلها شريكًا مثاليًا لاستقبال الصادرات الجزائرية من النفط والغاز، فضلاً عن المواد الخام مثل الفوسفات والتمور. وكما أشار الدكتور نور الدين بوسيف، خبير في الشؤون الاقتصادية في حديثه مع “المركز العربي للدراسات الاقتصادية” (فبراير 2024): “سلوفينيا تعتبر نقطة وصل رئيسية لتوجيه صادرات الجزائر إلى أسواق شرق ووسط أوروبا، مما سيمكن الجزائر من استغلال فرص اقتصادية كانت شبه مغلقة في السابق.”
على صعيد الاستثمارات، تسعى الجزائر إلى جذب الشركات السلوفينية المتخصصة في التكنولوجيا، الصناعات الثقيلة، والطاقة المتجددة. سلوفينيا، بما تملكه من خبرة في قطاع الطاقة النظيفة، تمثل فرصة كبيرة للجزائر التي تسعى إلى الاستثمار في الطاقة المتجددة ضمن رؤيتها الوطنية 2030. خبير الطاقة الجزائري يوسف بن طاهر يقول في تصريح له لوكالة الأنباء الجزائرية: “من خلال هذه الشراكة، يمكن للجزائر الاستفادة من الخبرات السلوفينية في تطوير مشاريع الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وهي مجالات تتماشى مع أهداف الجزائر الطموحة للحد من الاعتماد على الوقود الأحفوري.”
المناطق الحرة والتكنولوجيا
يعتبر التعاون بين الجزائر وسلوفينيا في مجال المناطق الحرة من النقاط المضيئة في الشراكة الاقتصادية بين البلدين. سلوفينيا، التي تمتلك خبرات متقدمة في إدارة المناطق الاقتصادية الحرة، يمكنها أن تساهم في تطوير هذه المجالات في الجزائر من خلال دعم المشاريع المشتركة وتقديم التوجيهات الفنية في كيفية جذب الاستثمارات الأجنبية المباشرة. بالإضافة إلى ذلك، في مجال التكنولوجيا والابتكار، يمكن للشركات السلوفينية المتخصصة في التقنيات الحديثة أن تساعد في دعم التحول الرقمي في الجزائر، الذي أصبح من أولويات الحكومة الجزائرية في السنوات الأخيرة.
التحديات والفرص
رغم هذه الفرص الواعدة، لا بد من الاعتراف بأن التحديات قائمة، إذ إن الجزائر لا تزال تواجه بعض الصعوبات في بيئة الأعمال المحلية، سواء من حيث البيروقراطية أو بنية الأسواق. وبالرغم من أن سلوفينيا تعتبر دولة صغيرة، إلا أنها تواجه تحديات مشابهة في ظل الركود الاقتصادي الأوروبي والضغوط العالمية. لذا، يتطلب التعاون بين البلدين تضافر جهود حكومية وتفكير طويل المدى لضمان الاستفادة المتبادلة.
في هذا السياق، يذكر الدكتور فرحات بن عودة، خبير اقتصادي جزائري، في مداخلته على قناة الجزائر الدولية (افريل2024): “على الجزائر وسلوفينيا أن تعملا جنبًا إلى جنب لتذليل العقبات التي قد تعترض التعاون التجاري بينهما، خصوصًا فيما يتعلق باللوائح الجمركية وتهيئة بيئة استثمارية صديقة للمستثمرين.”
نحو تعاون مستدام
إن الشراكة الجزائرية–السلوفينية تمثل خطوة هامة نحو تعزيز العلاقات بين الجزائر وأوروبا في سياق عالمي يشهد تحولات كبيرة. مع التركيز على التعاون الاقتصادي، التجاري، والأمني، تبدو هذه الشراكة واعدة في تعزيز مكانة الجزائر كداعم رئيسي للاستقرار الإقليمي والدولي. من خلال استكشاف آفاق جديدة للتجارة والاستثمار، بالإضافة إلى التعاون الأمني المشترك في مواجهة التحديات المعاصرة، تفتح الجزائر وسلوفينيا أمام نفسيهما فرصًا هائلة لتنمية علاقاتهما وتحقيق مصالح متبادلة على المدى الطويل.
الجزائر، التي تسعى لتوسيع نطاق شراكاتها وتنوعها بعيدًا عن الشركاء التقليديين، تدرك تمامًا أهمية هذه الشراكة التي يمكن أن تكون نقطة انطلاق لمزيد من التعاون الاستراتيجي مع دول وسط وشرق أوروبا. وكما هو الحال في أي شراكة، يتطلب الأمر التزامًا طويل الأمد من الطرفين لتجاوز التحديات وتحقيق الأهداف المشتركة. هذه الشراكة، بمختلف أبعادها الاقتصادية والسياسية والأمنية، تُمثل نموذجًا حيًا للعلاقات الدولية التي تُبنى على المصالح المشتركة والرؤية المستقبلية.

رابط دائم : https://dzair.cc/1om7 نسخ