ليس أخطر على الدول من أن تتحول العدالة فيها إلى إدارة أرشيف، تُراكم الشكايات ثم تُغلقها بعبارة واحدة: انعدام الإثبات. هذا بالضبط ما يفعله المخزن اليوم، وهو يقدّم أرقامًا “رسمية” عن التعذيب والعنف والاعتقال التعسفي، لا بوصفها وقائع تستوجب الصدمة والمساءلة، بل باعتبارها ملفات أُحسن التخلّص منها إجرائيًا.
حين تعلن رئاسة النيابة العامة في المغرب عن عشرات الشكايات ومئات الفحوص الطبية، ثم تنتهي الغالبية الساحقة منها إلى الحفظ، فنحن لا نكون أمام انتصار للقانون، بل أمام فشل منظومة كاملة في حماية المواطن. فالمخزن، الذي يحتكر القوة وأدوات الضبط والتحقيق، يطالب الضحية بإثبات ما جرى في غرف مغلقة، وفي زمن قصير، وتحت ميزان قوى مختلّ سلفًا. إنها معادلة عبثية: من يملك العصا يضع القواعد، ثم يعلن براءة نفسه.
المخزن لا ينفي الانتهاكات، بل يُفرغها من معناها. يعترف بالشكاية، يفتح البحث، يُنجز الفحص الطبي، ثم يُقفل الملف. دورة إدارية محكمة تُنتج وهم “التفاعل الإيجابي”، لكنها في الواقع تُكرّس الإفلات من العقاب. فكيف يُعقل أن تتحول مئات الادعاءات إلى بضع إدانات خجولة، بعقوبات رمزية، لا تردع ولا تُنصف ولا تُصلح؟
الأدهى أن هذا النمط لم يعد استثناءً، بل سياسة ممنهجة. سياسة تقوم على ثلاث ركائز: إطالة الزمن، إنهاك الضحايا، وتحصين الأجهزة. والنتيجة واحدة: خوف متزايد، صمت أوسع، وانعدام ثقة شامل. هنا لا يعود السؤال: هل وقعت الانتهاكات؟ بل: لماذا يستحيل إثباتها داخل منظومة يفترض أنها ضامنة للحقوق؟
في دولة تحترم نفسها، يُفترض أن تكون مؤشرات التعذيب والعنف ناقوس خطر يدقّ أعلى مستويات السلطة. أما في دولة المخزن، فتتحول إلى مادة بلاغية تُدار بعناية لغوية: “انتفاء العناصر التكوينية للجريمة”، “عدم كفاية الإثبات”، “الأبحاث ما زالت جارية”. لغة ناعمة تُخفي واقعًا خشنًا، وتُعيد إنتاج نفس الممارسات.
المشكلة ليست في القوانين وحدها، بل في منطق الحكم. منطق يرى في الاحتجاج تهديدًا، وفي الرأي المخالف جرمًا، وفي الحقوق ترفًا مؤجلاً. لذلك يُقمع المحتج، ويُتابَع الصحافي، وتُسجن الناشطة، ثم يُقال للجميع: لقد طبّقنا القانون.
لكن أي قانون هذا، حين يكون سقفه هو حماية السلطة لا كرامة الإنسان؟ وأي دولة حق وقانون تُقاس بعدد الملفات المحفوظة لا بعدد المسؤولين المحاسَبين؟
ما لم يُفكّك منطق المخزن القائم على التحكم والإفلات من العقاب، ستظل العدالة مجرد واجهة، وستظل التقارير الرسمية شهادات إدانة لا للضحايا، بل للنظام نفسه. فالدول لا تسقط فقط بالقمع، بل أيضًا حين تفقد مصداقية عدالتها.
