لم تعد مخاطر منصات التواصل الاجتماعي مسألة ترف فكري أو خطاباً مبالغاً فيه، بل تحوّلت إلى محور نقاش عالمي يتعلّق بالأمن الثقافي والهوية ومستقبل الأجيال، وبينما تتعامل بعض الدول مع هذه المنصات بسياسة صارمة وواعية، كما هو الحال في الصين، ما يزال الفضاء الرقمي الجزائري مفتوحاً على مصراعيه أمام خوارزميات لا تهتم إلا بجذب الانتباه، ولو على حساب بناء وعي سليم لدى المراهقين والشباب.
في النسخة الصينية من تيك توك، ووفق القوانين المحلية، يُسمح لمن هم دون 14 سنة باستخدام المنصة لمدّة لا تتجاوز 40 دقيقة يومياً، كما تُحجب المنصة كلياً بين العاشرة ليلاً والسادسة صباحاً. هذا ليس إجراءً عابراً، بل جزء من رؤية استراتيجية تعتبر أن الأطفال هم مستقبل الأمة، ولذلك تُوجّه الخوارزميات المحتوى الذي يستهلكه المراهقون نحو التجارب العلمية، الجولات في المتاحف، القصص التاريخية، الدروس الوطنية، والمحتوى التعليمي. النتيجة كانت واضحة في دراسة قارنت بين المراهقين الصينيين ونظرائهم في دولة أخرى: عندما سُئل الأطفال الصينيون عن طموحاتهم المستقبلية بعد سنة من استخدام منصتهم المحلية، أجاب أغلبهم بأنهم يحلمون بأن يكونوا رواد فضاء. أما في الجانب الآخر، فكانت الإجابة السائدة: “أريد أن أصبح مؤثراً”.
هذه المقارنة ليست تفصيلاً بسيطاً، بل تكشف الفرق العميق بين مجتمع يستثمر في توجيه عقول الأطفال، وآخر يتركهم تحت رحمة خوارزميات تُضخّم التفاهة وتكافئ السلوك المثير للجدل، لأنه ببساطة يُحقّق نسب مشاهدة أعلى.
في الجزائر، يعيش المراهقون والشباب داخل هذه البيئة الثانية. خوارزميات تيك توك الموجّهة للأسواق العالمية – ومنها الجزائر – لا تهتم بالثقافة أو الأخلاق أو التحصيل العلمي، بل تهتم بما يطيل وقت المشاهدة، ولهذا تضع أمام المراهق الجزائري قدوات رقمية من نوع جديد: مؤثرون يبحثون عن الشهرة بأي ثمن، يروّجون للتفاهة، ويستعرضون الانحراف الأخلاقي في شكل تحديات ومقاطع صادمة. الأخطر أن هذه النماذج صارت بالنسبة لعدد كبير من المراهقين “مثلاً أعلى”، فيقلدون طريقة اللباس، الحديث، التعامل، وحتى السلوك المتهور الذي يحقق المتابعة.
وفي ظل غياب توجيه خوارزمي واعٍ، يصبح معيار النجاح بالنسبة لعدد كبير من الشباب هو عدد المتابعين وليس عدد الكتب المقروءة، وعدد اللايكات بدلاً من عدد المهارات المُكتسبة. هذه المقاييس الزائفة أنتجت لدى شريحة واسعة من المراهقين تصوراً مشوّهاً عن معنى النجاح والجهد والمستقبل. فبدلاً من طموحات علمية أو مهنية، صار الحلم المشترك: أن يصبحوا “مؤثرين”، حتى لو كان الثمن التخلي عن الخصوصية أو احترام الذات.
ما يزيد من تعقيد الظاهرة أن المجتمع الجزائري يشهد تحوّلات اجتماعية واقتصادية تجعل المراهق أكثر قابلية للتأثر: فجوة بين الأجيال، غياب بدائل ترفيهية وثقافية، أزمة قدوة، ضعف في المحتوى الإعلامي المحلي الموجّه للأطفال والشباب، وبيئة مدرسية لا تمنحهم ما يكفي من الإلهام أو الأمان النفسي، بالإضافة إلى مساهمة بارونات تهريب المهلوسات والمخدرات من خطر محدق في استهلاك هذه الفئة الحساسة لتلك السموم. وهنا يتدخل تيك توك لملء الفراغ، ليس بمحتوى يرتقي بالوعي، بل بمحتوى يضرب في العمق قيم المجتمع.
وفي المقابل، تُقدّم التجربة الصينية مثالاً دالاً على أن الخوارزميات ليست قدراً، بل قراراً سيادياً. فالدولة التي تعتبر أطفالها مشروعاً وطنياً، لا تسمح لخوارزميات تجارية بتشكيل وعيهم. بينما في الجزائر، حيث تمثل شريحة الشباب والمراهقين والأطفال ثلاث أرباع السكان، يُترك هذا الجيل ليتشكل رقمياً دون حماية معرفية أو سياسات واضحة للوقاية من الإدمان الرقمي أو لتوجيه المحتوى.
الخطر هنا ليس أخلاقياً فقط، بل استراتيجياً. فجيل ينشأ وهو يربط مستقبله بالشهرة السريعة والظهور، قد يفقد القدرة على الاستثمار الحقيقي في نفسه، وقد يتراجع مستوى طموحاته العلمية والمهنية. وهذا ينعكس على المدرسة، على الجامعة، وعلى سوق العمل، وعلى قيم المجتمع وانسجامه. فالمستقبل الذي يحلم به المراهق اليوم سيكون هو المجتمع الذي نعيشه بعد عشرين سنة.
إن حماية الشباب من أثر تيك توك لا تعني المنع أو القمع، بل تقتضي فهماً عميقاً لطبيعة الخوارزميات، واعتماد سياسات رقمية تحافظ على الهوية والثقافة وتوجّه المحتوى نحو ما ينفع. المطلوب ليس مقاطعة المنصة، بل مقاطعة التفاهة، وفرض معايير حماية رقمية، وتحفيز إنتاج محتوى تعليمي وترفيهي راقٍ، وتطوير برامج وطنية للإعلام الرقمي للمدارس والعائلات.
الصين أدركت أن “أطفال اليوم هم مستقبل الأمة”. أما السؤال الذي ينبغي أن يطرحه المجتمع الجزائري على نفسه فهو: أي نوع من الأجيال نريد أن نصنع؟ وهل نترك هذه المهمة للخوارزميات، أم نقرر نحن ما يجب أن يراه أطفالنا وما يجب أن يحلموا به؟
