لم يعد المال السياسي في المغرب مجرد وسيلة لتزيين الحملات الانتخابية أو شراء الذمم في الخفاء، بل تحوّل — كما تكشف دراسة الباحثين أشرف الطريبق وعبد الرزاق المسكي — إلى ركيزة مركزية في هندسة السلطة وتوزيعها. إنها ليست مجرد ظاهرة فساد انتخابي، بل منظومة إنتاج متكاملة تُعيد تشكيل النسق السياسي داخل القانون نفسه، تحت لافتة “الشفافية” و”الإصلاح”.
الدراسة الصادرة عن المجلة العربية للنشر العلمي تضع الأصبع على الجرح: العملية الانتخابية في المغرب لم تعد مسرحا للتنافس بين المشاريع، بل مختبرا لصناعة “الثقة الرمزية”. فالانتخابات لم تعد لحظة تأسيس للشرعية، بل أداة تقنية لإدارة التوازنات، حيث يتكلم المال باسم الدولة، وتتحرك اللوائح بأوامر المراكز، وتُوزع المقاعد كغنائم بين شركاء الطاعة.
القاسم الانتخابي: رياضيات الضبط السياسي
في قلب هذا النظام الانتخابي يقبع ما تسميه الدراسة “العقل الأداتي للدولة”، الذي جسّدته بدقة معادلة القاسم الانتخابي الجديدة سنة 2021. فالانتقال من قاعدة الأصوات الصحيحة إلى قاعدة المسجلين لم يكن مجرد تعديل حسابي، بل انزياح إبستيمولوجي في فلسفة الاقتراع. أصبح التصويت مجرّد عملية إدارية، لا اختيارا سياديا. ومن خلال هذا القاسم، تمكّنت السلطة من تحويل الديمقراطية إلى هندسة رياضية للهيمنة: كل شيء محسوب، كل فوز مضبوط، وكل أغلبية ممنوعة.
بهذه الصيغة، تقول الدولة للمواطنين: “صوّتوا كما تشاؤون، لكن النتيجة ستبقى متوازنة.” إنها ديمقراطية الحياد السلطوي، حيث تُمارس السيادة بوسائل ديمقراطية، وتُدار الديمقراطية بعقل سيادي. التعددية قائمة، لكنها بلا روح. البرلمان موجود، لكنه واجهة لتداول الخطابات لا لصناعة القرار. والانتخابات تُقام، لكن من أجل تجديد واجهات السلطة لا تغييرها.
المال السياسي: من وسيلة إلى بنية سلطة
تُظهر الدراسة أن المال السياسي لم يعد مجرد “انحراف عرضي”، بل بنية لإعادة إنتاج النسق القائم. فالفساد لم يعد خللا، بل نظام تسيير. والمال — العمومي منه والرمزي — صار أداة لتقويض التمثيل وإفراغ السياسة من مضمونها. كل صوت له ثمن، وكل موقع يُشترى بولاء، وكل حملة تُدار بمنطق السوق لا بمنطق المبدأ.
إنها ديمقراطية تُدار من أعلى، حيث تُستخدم أدوات المحاسبة والمراقبة لا لترسيخ السيادة الشعبية، بل لترميم شرعية أخلاقية متآكلة. فالانتخابات تحولت إلى طقس رمزي لإعادة إنتاج الثقة في الدولة، حتى وإن كانت الدولة نفسها لا تثق في إرادة الناس.
العزوف كآلية استقرار
الظاهرة الأخطر التي تفضحها الدراسة هي أن العزوف الانتخابي لم يعد أزمة، بل أداة استقرار. فكلما تراجعت المشاركة، ارتفعت قيمة القاسم الانتخابي، وتشتتت النتائج أكثر، فتتكرّس قاعدة الحكم الجديدة: “كلما قلّ التصويت، زاد الاستقرار.” وهكذا يُكافأ النفور الشعبي من السياسة بتحصين النظام من أي تغيير فعلي.
إننا أمام معادلة مقلوبة: كلما ضعفت الديمقراطية، قويت دولة المخزن؛ وكلما قلّت الإرادة الشعبية، ازدادت الشرعية الشكلية. إنها عبقرية الحكم بالموازنة لا بالمحاسبة، بالتعددية المقننة لا بالاختيار الحر.
نحو وعي مضاد
ما تكشفه هذه الدراسة ليس مجرّد تحليل أكاديمي، بل تشريح لنظامٍ جعل من الانتخابات آلية لإدارة الخضوع بدل ممارسة السيادة. فـ”الدولة الانتخابية” في صيغتها المغربية لا تسعى إلى تداول السلطة، بل إلى تداول الولاء. إنها هندسة دقيقة تجعل التغيير ممكنا في الشكل، مستحيلا في الجوهر.
لذلك، فإن المعركة المقبلة ليست معركة صناديق، بل معركة استعادة المعنى: أن يتحول التصويت من إجراء إداري إلى فعل تحرري، وأن تتحرر السياسة من قبضة المال والولاء، وأن تُستعاد الإرادة الشعبية من مختبرات الضبط والسيطرة في أعلى هرم المخزن.
ففي النهاية، كما تقول الدراسة ضمنا: “كلما ازداد القاسم الانتخابي دقة، تراجعت الديمقراطية فعليا.”
ولعلّ أخطر ما في هذه الديمقراطية المغربية أنها تُدير الإجماع لا الإرادة، وتُقنّن الخضوع باسم الاستقرار.