في تصريحٍ يفجّر مفاهيم الضبط الاجتماعي ويلقي حجرًا في عجلة الاستقرار المعلن، قال المعارض لنظام المخزن، الدكتور محمد البطيوي إنّ بعض المطاحن المغربية تطحن ليس دقيقًا للإنسان، بل «دقيقًا موجهًا للحيوانات»، وإنّ «ما يستهلكه الشعب المغربي هو دقيقٌ كان موجّهًا للحيوانات».
هذه الكلمات — الصادمة بحق — ليست زلة لسانٍ، بل كشفت عن بُعدٍ مهمّ في الواقع المغربي: أن قِوى المخزن ما زالت تنظر إلى المواطن المغربي من «أسفل الهرم» كمستهلكٍ خامِل، لا كمواطنٍ له حقّ الكرامة.
مقطع الفيديو الذي انتشر على صفحات التواصل، وفيه يظهر البطيوي ضيفًا على برنامج للصحفية المغربية المعارضة، دنيا فيلالي، تحدث فيه بكل وضوح أن «الدقيق الذي يستهلكه الشعب المغربي موجّه للحيوانات».
الخبر انتشر بسرعة كإنذارٍ لقلب الدولة المخزنية العميقة، وأُثار تساؤلات حول مدى صدقية التصريح، مدى استجابة الدولة له، وماذا يعني أن يتحدّث أكاديمي معروف بهذا القدر عن فشلٍ غذائي مؤسس.
التصريح ليس عن دقيقٍ فحسب، بل عن منظومةٍ سياسية واقتصادية تُعادي المواطن المغربي منذ سنوات. فالدقيق هنا رمزٌ للثقة التي تآكلت، للتنمية التي قوبلت بتراكم الخلافات، وللدولة التي تُخلي مسؤولياتها بينما تُخفي تحت عناوين «الإقلاع» و«النموذج الجديد» واقعًا من الإهمال والتهميش.
عندما يُقال إن “الدقيق موجّه للحيوانات”، فإنّ ذلك يُعبّر عن انحياز واضح: الأولوية لمن له السلطة أو الولاء، وليس لمن يحمل الحقّ من المواطنين المغاربة المهملين والذين يصنفهم المخزن في مستوى أدنى من البشر تتناسب همومهم -بالنسبة إليه- مع احتياجات الحيوانات.
وهو بعقليته هذه يربط مباشرة بمنطق المراكز/الهامش: فكما تُزيّن الأقاليم الجنوبية بمشاريعٍ ضخمة تُروَّج للواجهة، تُركت مدارسٌ ومستوصفاتٌ في حالة مزرية تُظهر وجه الدولة المخزنية بشطرين: واجهة للتصوير، وواقع للمعاناة.
وبذلك تنفتح دلالتان: الأولى أن “الحكم الذاتي” و“النموذج التنموي” وُضعت لتجميل واقع أقاليم مُحتلّة أو مهمشة، وليست فعلاً لتغيير بنية السلطة؛ والثانية أن هشاشة انتظام الغذاء خاصة في الطبقات الهشة هي حصيلة منطقٍ سياسي يرى المواطن منفّذًا لا شريكًا، مستهلكًا لا فاعلًا.
فهل تستحق سلطة المخزن كل هذا السخط؟ نعم، تستحق. فالدولة التي تسمح بأن يُقال علنًا إن دقيقها موجّه للحيوانات هي دولة خسرت شرعيتها الأخلاقية. نعم تستحق، فالحكومة التي تُخفّف المسؤولية بالتقرير المالي أو التصنيفات الائتمانية، بينما تُنبش حقيبة المواطن ببقايا الدعم، هي حكومة تلعب بالنار. نعم تستحق، لأن هذه التصريحات ليست منفصلة عن استراتيجية واسعة: تمويل مشاريع كبرى، إقناع الخارج بالحداثة، واحتواء الداخل بالكلمات الورقية.
لكن السخط الحقيقي لا يكمن في التصريح فحسب؛ بل في استمرار المواطن المغربي في أن يدفع ثمن هذا العبث. وفي أن منظومة القرار لا تتغيّر، بل تعيد تدوير نفسها تحت شعار “الإصلاح” وتوزّع الدقيق المعدّ للحيوانات كمشترَك وطنيّ!
تصريح محمد البطيوي فضح ما لم تُفلح بيانات حكومة المخزن ولا إعلانات المشاريع في تسويته: أن التنمية لم تُوزّع، وأن الأرقام الوردية لا تكفي لتغطية الواقع البائس، وأن “الحكم الذاتي” و“النموذج التنموي” لا يعالجان الجذر، مهما استخدمهما المخزن في تغطية فشله.
ما يحتاجه المغاربة اليوم ليس ورقة سياسة معدّلة، بل إرادة سياسية تنزع الوصاية وتُعطي الحقّ. وبدون ذلك، سيظل هذا الدقيق «الموجّه للحيوانات» يُخبز خبزاً للفقر والإحباط لجيلٍ يحتاج أن يُعامل كمواطن، وليس كمستهلِك في مستوى الحيوانات.
