يكشف التصريح الأخير للرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن أوروبا “ليست في حالة سلام حقيقية، بل في صف الحرب”، عن تغير في لهجة موسكو، ويعبّر عن استراتيجية رسائل مزدوجة، بعضها تكتيكي وبعضها استراتيجي.
عندما يقول بوتين أن أوروبا في صف الحرب، فهو لا يكتفي بوصف الصراع الجاري في أوكرانيا، بل يعمّم حالة المواجهة لتشمل القارة الأوروبية ككل، وبالتالي يشكل تحوّلاً في الخطاب من صراع محدود على أوكرانيا، إلى صراع شامل بين روسيا وأوروبا.
كما أن الإشارة بأن روسيا مستعدة الآن إذا أرادت أوروبا الحرب، تُعتبر تهديداً مفتوحاً، ورسالة تقول بكل وضوح أنه إذا تجاوزتم الخط الأحمر، لن يكون هناك تفاوض، كما أن موسكو لن يكون لديها أحد للتفاوض معه، لأنه حينها سيكون الجميع في مرمى نيرانها.
هذا الخطاب دون سابقيه، يضع الحرب والسلام كخيارين صارمين، إما سلام بشروط موسكو، ما يعني قبول الشروط الروسية على أوروبا ـ أوكرانيا، أو حرب مفتوحة، وبالتالي أي مفاوضات أو عقود هدنة تُجري في ظل هذا التصور يحوم فوقها “شبح التهديد العسكري”.
ويمكن الإشارة إلى أن هنالك عدة عناصر بنيوية وسياسية تجعل هذا التصريح ذو توقيت استراتيجي، وأبرزها كونه يأتي قبل مفاوضات وحوارات، فضلاً عن زيارة المبعوث الأمريكي إلى موسكو لبحث إنهاء الحرب.
كما يأتي هذا التطور في سياق تصعيد روسي بعد ضغوط عقوبات غربية متزايدة، أوروبا – وخصوصًا الاتحاد الأوروبي – فرضت جولات عقوبات على روسيا، لكن موسكو تقول إنها “تطورت ولها مناعة” ضد هذه الإجراءات.
ويحاول الجانب الروسي ومن خلال مثل هكذا تصريحات أن يعيد صياغة المعادلات السياسية والدبلوماسية، بحيث تكون الموافقة على شروط موسكو مرادفاً لـ “السلام”، ويُصوّر كل خيار بديل على أنه “خيار حرب”، وهذا يمنح روسيا مزيداً من اليد العليا في المفاوضات.
أما على المستوى الرمزي، فإن تصعيد الخطاب يشدّد على أن موسكو لا تزال قوة مركزية قادرة على فرض نفوذها، وأن المسار السياسي أو العسكري الذي تريده هو الذي سيُفرض، وأن أوروبا والغرب ليسوا في موضع تفاوض حرّ، بل في موقف دفاعي.
وتريد موسكو التأكيد على أن أوروبا ليست مجرد “مراقب” أو “متضرّر” من الحرب في أوكرانيا، بل أصبحت طرفاً محتملاً في المواجهة، وهذا يرفع من مستوى المخاطر الأمنية ويضع كامل القارة تحت شبح المواجهة.
وبالتأكيد، يمكن اعتبار هذا التصريح “تطور لافت” لأنّه يتجاوز حدود الحرب على أوكرانيا، ويضع أوروبا كلها في خانة العداء، حيث لم يكن الخطاب الرسمي للكرملين بهذه الصراحة منذ بداية الأزمة.
كما أنه يُغيّر من منطق “الاحتلال، التفاوض المحتمل والتهدئة المؤقتة” فوراً إلى “صراع دائم، خيار سلام بشروط، وتهديد كلي” ما يعني أن المدى الزمني للصراع ربما أصبح مفتوحًا لأشهر أو سنوات.
وعلى ضوء هذا التطور اللافت، يمكن أن نرى دولاً أوروبية تسارع لتعميق الاستعداد الدفاعي، وتعيد النظر في دفاعاتها، وربما تعيد صياغة تحالفات، ليس فقط داخل الناتو، بل مع دول خارج تقليدية.
وختاماً، يمكن أن نخلص إلى حقيقة واحدة، وهي أن تصريح بوتين بأن أوروبا “في صف الحرب” ليس مجرد تهديد عابر، بل هو وبدون أدنى شك إعادة ترتيب لمعادلات القوة، مع افتراض أن الصراع بين روسيا والغرب لم يعد في أوكرانيا فقط، بل على مستوى إستراتيجي، وأن أوروبا كاملةً أصبحت هدفًا، وليس طرفًا متفرجًا.
والرسالة هنا واضحة، إما قبول الشروط الروسية “سياسيًا أو عسكريًا”، أو الانجرار إلى مواجهة مفتوحة، ولهذا، فإن كانت أوروبا تأمل في تهدئة أو سلام، عليها أن تعيد حساباتها بالكامل، ليس فقط لمصير أوكرانيا، بل لمستقبل أمن القارة.
